زارته في الحلم شفافة رقراقة.. كما عهدها دائمًا..
كانت ترتدي فستانًا أزرقًا فضفاضًا، ووشاحًا وردياً ينساب من خلاله شعرها الأسود الطويل. لم يتحدثا طوال الحلم ولكنها ظلت تبتسم له في صمت بهي..
جلسا على الأرض سويًا، بينما أحاطت بطنها الناتئة بكفيها، وعندها فقط لاحظ أنها ليست وحدها..
كانت تحوطها هالة من الصفاء، وبدت كقديسة في صمتها وابتسامتها الخفيفة.. كانت في عينيها اللوزيتين تلك النظرة.. النظرة التي رآها آخر مرة، غير أنها لم تكن تبكي الآن. بالعيون شجن خفي لن يلحظه إلا إياه، ولكنه رأى أنها مفعمة بالسكينة؛ ليست سعيدة ربما، ولكن ربما أيضًا هو الرضا الذي طالما تمنته..
مدت يدها إليه بينما مازالت يدها الأخرى على بطنها.. حاول أن يلمسها فلم يستطع - على قرب المسافة بينهما..
استيقظ ليجد يده ممدودة في الهواء طلبًا للمسة قديسة لم ينلها..
قام من سريره ليشعل سيجارته ويعد قهوته. أطل من نافذة غرفته على المدينة الثلجية الشاسعة، ونفث دخان سيجارته في هواءها. لم يحلم بها منذ سنوات؛ منذ تقطعت بهما السبل، وسكت الكلام. فكر في أنها طالما قد زارته، فقد سامحته. ربما أيضًا أرادت إخباره أنها ستصبح أمًا، مثلما تمنت دائمًا..
تناول الكتاب الذي كانت قد أهدته له يومًا، وكانت يداه تعرف طريقهما جيدًا: تلك الصفحة التي كتبت أعلاها بخطها الطفولي "أنا وأنت" ثم قرأ السطور التي امتد تحتها الخط الرصاصي:
"الحنين وجع لا يحن إلى وجع. هو الوجع الذي يسببه الهواء النقي القادم من أعالي جبل بعيد.. وجع البحث عن فرح سابق.."
Wednesday, May 13, 2009
".. وجع لا يحن إلى وجع"
Tuesday, May 05, 2009
نهاية العالم
جلست في نهاية الشارع الخاوي ليلًا: هي على مقعد خشبي عجوز، وأمامها حاسبها المتنقل على منضدة خشبية أيضًا. انهمكت في الكتابة على الحاسب بينما تتلفت حولها من حين لآخر في توتر. كانت تنتظر حدوث الأمر بين لحظة وأخرى ولكنها لم تعرف متى يبدأ بالضبط.
على جانبي الشارع صفان من البنايات المهجورة وصفان من أعمدة النور. كانت أنوارهم جميعًا مضاءة.. تعرف هي ذلك لأنها هي التي أوقدتهم.. واحدًا واحدًا.
تنهمك في الكتابة بسرعة حتى تكاد أصابعها أن تتشابك معًا. تريد أن تخبره بكل ما أرادت أن تخبره إياه قبلًا ولم تستطع، ولكنها لا تعلم إن كان الوقت سيكفي أم لا. تسأله بين الفينة والأخرى إن كان الأمر قد حدث عنده أم لا، فيجيبها أن ليس بعد، ولكنه يشعر باقترابه.
يظهر لها إنذار على أسفل يمين الشاشة بأن البطارية توشك على النفاد، فيتقلص قلبها: إنهم هنا.
تسرع من كتابتها بدون أن تنظر للردود التي طالما انتظرتها طويلًا. تبدأ بطارية هاتفها المحمول أيضًا في الاستغاثة، فلا تجد مجالًا حتى لتهمهم "باللعنة". يخبرها أن الأمر قد بدأ في الحدوث عنده.. في النصف الآخر من العالم، فهو إذن منها بقريب. يوصيها بأن "تخلي بالها من نفسها"، وبألا تستسلم. توصيه بالمثل، ثم تتردد لبرهة قبل أن تخبره أنها تحبه، وأنها تعلم أن الوقت المناسب لقول ذلك قد فات. يرد بابتسامة قائلًا لها أن الوقت لا يفوت أبدًا لقول هكذا شيء. يرسل لها قبلة افتراضية ثم يختفي من على الشاشة. تتجمد في مكانها وقد أيقنت أنها قد أصبحت الآن وحدها.. تمامًا.
تتشبث بالمنضدة بيديها الإثنتين ناظرة إلى بداية الشارع الذي تجلس بنهايته. تحدق في أعمدة الإنارة المنتصبة هناك منتظرة حدوث الأمر في أية لحظة. لا يطول إنتظارها كثيرًا حتى تبدأ الأعمدة في الإنطفاء. تبدأ جيوش العتمة في الزحف نحوها مطفئة كل نور في طريقها. تنطفئ أنوار الشارع فأنوار البيوت واحدًا تلو الآخر. تظل جالسة في مكانها محدقة في الآت. تقترب الظلمة شيئًا فشيء حتى تنطفئ شاشة حاسبها، فشاشة هاتفها المحمول الذي تمسكه بيد مرتعشة. لا يتبق سواها في العتمة، وسكون مطبق يلف العالم من حولها.