تمسك يدي بيدها العجوز.. تدقق النظر في باطن كفي وكأنها تستنطقه. بعد وهلة تخبرني بلهجة الواثق أن خطي الحب والموت يتقاطعان في كفي؛ فإما أنني سوف أموت حبًا أو أنني سوف أحب حتى الموت. لا أستوعب الفرق بين الاثنين فأسألها ضاحكة السؤال التقليدي: "طب مافيش في طريقي سكة سفر ولا حاجة؟"، فتمعن النظر في باطن كفي مرة أخرى لتخبرني بعدها وهي تحاوط كفي بيديها الاثنتين: "عندك سكتين سفر يا بتّي.. سكة جواكِ، وسكة براكِ.. سكتينك طوال.. بس ماتخافيش".. "وهاوصل يا خالة؟".. "يا بتّي.. السكة فيها الوصول، والوصول هو السكة". ثم ملست على كفي وكأنها تزيح عنه غبار المستقبل غير المرئي لتبلغني: "النقطة دية.. غربة.. بتحاوريها وتحاورك.. وتشاغليها وتشاغلك.. بتحوم حواليكِ وساعات تطولك وساعات لا.."
***
قرار مفاجئ بالسفر بعد الفجر.. أحب السفر وأحب المفاجآت وأحب هواء ما بعد الفجر.. هواء طازج بكر لم يتنفسه أحد قبلي. نأخذ الطريق الذي أحبه باتجاه المدينة التي أحبها والدنيا ما تزال تتثاءب من حولنا. يبدأ الطريق فأنظر بجانبي لأجد سيارة زرقاء صغيرة تتهجى لوحتها حروف كلمة "ونس" فابتسم: بداية جميلة.
لا أدري لم أذكرك دائمًا في سكك سفري؛ وكأنك مرتبط بكل مكان سافرت إليه أو أتيت منه أو عبرته يومًا. أطلب من أمي فتح الراديو على سبيل "الونس"، فيصاحبنا موال طويل وهادئ لفريد الأطرش لم أسمعه قبلاً، ولكنني ظننت أنه حقًا يناسب الصباح.
تنام أختي موسدة رأسها على كتفي الأيمن، وأخي على كتفي الأيسر. أظل مستيقظة، وكذلك أمي إلى جانب أبي الذي يقود السيارة. دائمًا ما تصر أمي على مصاحبة أبي في سكك سفره وبخاصة الموغل منها في الإبكار أو التأخير. أعرف أنها تعبة ولا تقوى على فتح عينيها، ولكن لا تغمضهما لأن قاعدتها الأولى تنص على أن غياب الونس ممن يجلس إلى جانب السائق قد يؤدي لغفلة عين السائق المرهق أصلاً. تجد أمي ذلك عاديًا جدًا بينما أجده أنا أمرًا مليئًا بالحب. لا أملك سوى أن أفكر فيك وفي أنه لو تلاقت سكتا سفرنا لتغير كل شيء..
ينتهي موال فريد لتبدأ أغنية فيروز "نسم علينا الهوا". أنظر أمامي فأجد الشمس المستيقظة لتوها تشرق من بين السحب. تنساب كلمات فيروز إلى أذني: "يا هوا دخل الهوا خدني على بلادي". يبدأ الصوت في التقطع تدريجيًا لخروجنا من دائرة إرسال مدينتنا، وعندما يصمت الصوت تمامًا بنهاية الأغنية، يبدا النوم في التسلل إلى جفوني. أسند رأسي أخي وأختي على كتفي بحرص بينما أغوص في المقعد الخلفي. وبينما لا يزال طيف صوت فيروز معلقًا في أجواء السيارة، تتعلق بقلبي جملة واحدة: "يا ونسي وبلادي وسكة سفري الطويل.. خدني على بلادي.."
Wednesday, September 16, 2009
سكة سفر
Subscribe to:
Posts (Atom)