Friday, October 30, 2009

شبابيك


الدنيا كلها شبابيك.. والسهر والحكاية والحواديت.. كلها دايرة عليك..*


أبص للعمارات اللي حوالينا.. على البيوت المنورة.. كل بيت في دولة جواه حكاية، وكل واحد في البيوت دي له حكاية جوة الحكاية، يا ترى في حد فيهم حكايته زي حكايتنا؟ البيوت أكترها منور بالنيون.. عارف مابحبش النيون؛ أبيض وساقع كده.. لكن بيقولوا إنه بيوفر في الكهربا!


***



أقف في الشباك وأديهم كلهم ضهري. أبص على دموعي وهي نازلة تنتحر من الدور السادس وبعدين الناس يدوسوا عليها وهما مش حاسين. بتعدي من فوقي طيارة أكيد شايلة حد مفارق واحشاه الوشوش إنما البعد بيخليه يشوف حبايبه بُعاد بُعاد وصغيرين زي النمل.. من غير وشوش..

بيهب شوية هوا ساقعين فجأة فأحاول أفتكر وشك يمكن أتدفى شوية.. أغمض عينيا وأحاول.. أعصر دماغي عصر ومافيش حاجة راضية تطلع.. أحاول أحاول أحاول ومافيش حاجة راضية تيجي إلا.. إلا وش بعيد بعيد وصغير صغير زي النمل..

ومايدفينيش ساعتها إلا دمعة نزلت تحصل إخواتها تحت رجلين اللي بيدوسوهم وهما مش حاسين..


***



في البلكونة اللي قصادنا على طول كرسيين وطرابيزة بامبو وكبايتين يظهر كان فيهم شاي وطقطوقة مليانة أعقاب سجاير. باسرح في البلكونة الفاضية وأتخيل إنها بلكونتنا.. ستارة تل أبيض منقوش بتهفهف في الهوا، وشيش! "ملعون أبو الألوميتال".. "رخم ودمه تقيل ومش بتاع جوِّنا أصلاً".. شيش أبيض كمان، بس إحنا مش هانسيبه أبيض طبعًا، هانجيب ألوان ونهريه رسومات – زي ما كنت باعمل في شيش جدتي وأنا صغيرة بالقلم الجاف الأزرق؛ ورد وشجر وفراشات، وبعديها أجري استخبى حتى مرور العاصفة! البلكونة محندقة كده، وأنا هايبقى البياض ابتدى يضرب في شعري إنما فشر! عاشت الصبغة حرة مستقلة! وهابقى لابسة قميص نوم قطن نُص كم زي بتوع جدتي تمام، أنت بقى.. هايبقى عندك كرش صغنن كده، وهاتبقى اصلعيت شوية – زي أبوك دلوقتي كده، هاتبقى علمتني شرب السجاير، وهابقى أنا علمتك ماتشربش الشاي من غير خلطة القرنفل والنعناع والقرفة بتاعتي.. عارف؟ هانبقى عواجيز بس والله هايبقى دمنا خفيف..

أرجع من سكة سرحاني على البلكونة اللي قصادنا ألاقي الستارة لسه بتهفهف في الهوا، والشيش نُص مردود.. ابتسم لهم وأقول لهم في سري: "تصبحوا على خير.. يا جوز عواجيز دمهم خفيف.."


***



"البنت المجنونة اللي بتكلم الياسمين!" كل يوم الصبح تطلع في بلكونتها الصغيرة تسقي الياسمين من كوز بمبى.. تسقيه بالراحة وبحنية غريبة؛ كإنها بتعد النقط الرايحة لياسمينة ياسمينة لاحسن واحدة تغير من أختها ولا حاجة، بعد ما تسقيهم تقعد تحكيلهم حواديت وهي بتطبطب عليهم؛ برضه ياسمينة ياسمينة. ساعات كتير تلاقي ياسمينة صحتها مش قد كده، تقوم بايساها دونًا عن إخواتها كلهم، وتقوم مغنيالها أول أغنية تخطر على بالها.. وبقدرة قادر، تاني يوم لازم تكون الياسميناية دية بالذات أكتر واحدة مزهزهة ومرعرعة وسط إخواتها كلهم.. جارها اللي في العمارة اللي قدامهم كان بيقول عليها مجنونة.. لاجل وهما صغيرين كانت تسيب كل العيال اللي بيلعبوا في الشارع وتروح تقعد قدام شجرة الياسمين المزهرة في الجنينة اللي قصادهم، ويوم ما غاظها وقعد يقطع الياسمين ويرميه في وشها، لقاها قامت لملمته بكل هدوء في جيوبها، بعدين بصت له وهوب! لقاها نطحته لحد ما وقعته وقعدت فوقيه وهاتك يا ضرب! وماخلصوش من إيدها يومها إلا أبوها الطيب وهو راجع من الشغل. بعديها بيومين وهو نازل مدرسته لقى جواب على باب بيته: "آسفة إني ضربتك. الياسمينة هي الشجرة الوحيدة المزهرة في الخريف. إوعا إوعا إوعا تعمل فيها كده تاني." كان فيه إرتباط شرطي بين الخريف وبين ريحة الياسمين اللي بتلطشه كل يوم من بلكونتها أول ما الخريف يهل.. كان في بلكونتها ورد وزرع كتير، لكن روحها وابتسامتها ماكنتش تنور غير أما الياسمين يزهر: "كل حاجة بتموت في الخريف إلا الياسمين.. الياسمين بيستنى أما الصيف يسحب آخر خيط ألوان فرايحي من الدنيا ويسيب للخريف الألوان الحزينة، ويقوم مزهر هو يمكن الخريف يفرح شوية!"

البنت المجنونة اللي بتكلم الياسمين.. البنت المفترية اللي ضربته وهو صغير.. البنت الغريبة اللي ساكنة في البلكونة اللي قصادهم.. زارعة في قلبه ياسمينة كبيرة مزهرة طول السنة.. مش في الخريف بس..


***



أفتح الشباك والبيت والدنيا نايمين وهُس هُس.. أطَلع إيديا في الهوا كإني فاردة جناحي.. أفتكر أما كنت صغيرة وكان أول نشاط ليا بعد ما أصحى إني أفتح شباك أوضتنا للآخر، وأقوم مدلدلة رجليا من بين قضبان السور الحديد وأقعد أمرجحهم مع إيديا.. كتير كنت أغمض عينيا وأمثل إني بطير وأنا باغني.. ومرة طرت طرت طرت لحد ما فقت على فردة الشبشب الأحمر واقعة في الجنينة! ساعات كتير نفسي بتهفني أعمل كده تاني، بس للأسف القضبان الحديد اللي كنت باطلع رجليا وإيديا من بينهم بنينا عليها حيطة دلوقتي وراح نُص الشباك! أبص للسما والأقي النجمة الوحدانية اللي طالعة في سما القاهرة، وأفكر إن زمان ماكنتش السما كده. أتأسف للسما والنجمة على اللي معمول فيهم في سري.. بعدين أسرح وأفكر إنه صحيح شبابيكنا ضاقت وصحيح سمانا اتخنقت وصحيح قوي نجومنا قلت؛ إنما إحنا لسة فاكرين شكل السما أم نجوم كتيرة من شباك كبير. أقولك؟ حط كل المشاهد دية في قلبك واقفل عليهم بالضبة والمفتاح، وإدي المفتاح لحد بتحبه.. يمكن يفتح نُص الشباك اللي عنده على نص الشباك اللي عندك ويرجعوا يبقوا شباك واحد كبير شايفين منه سما جديدة مبدورة نجوم..