Thursday, February 19, 2009

عنها

أصلي المغرب ثم أشرع في إرتداء ملابسي، أفتح الدولاب وتبحث عيني عن اللون الأسود، فلا أجد. أبحث بجدية أكثر، لكن لا يسفر هذا البحث سوى عن جاكيت رمادي؛ يكون هو أقرب ما أجد للأسود. أخشى ألا يكون مناسباً فأتجه لدولاب أمي، أجد "بلوفر" أسود ولكنني أدرك أنه سيكون واسعاً جداً علي، فأرضى بالجاكيت الرمادي. أرتدي ملابسي في صمت ثم أقف أمام المرآة لأرتدي الإيشارب (الرمادي أيضاً). أحملق في وجهي الخالي من المساحيق بالمرآة، وأتذكر عندما كنا صغاراً -حتى فترة قريبة- كان عندما يتحتم علينا الذهاب مع أمي إلى عزاء، ترفض رفضاً باتاً إرتداءنا أنا وأختي للأسود. "إنتو لسه صغيرين على الأسود"، كانت تخبرنا، فنكتفي بالبني أو البيج أو أياً من غوامق الألوان. ابتسم لنفسي في المرآة محادثة إياها: "إنتي كبرتي يا نوران. ولازم يبقى عندك حاجة سودة في دولابك". أنهي ارتداء ملابسي ثم أتساءل إن كان ارتداء عقدي الفضة مناسباً أم لا: أوقظ أمي لأسألها: "هو كده
too much?!"
فترد بلا. أذهب إلى غرفتي ثم أعود لأسألها: "طب هو فيها حاجة لو حطيت بارفانة؟"، فتخبرني أنني "مش من أهل المتوفي -لا سمح الله- فمفيهاش حاجة يعني". ترعبني فكرة جرح أهل المتوفي بأي شكل من الأشكال، فأحرص كل الحرص أن تتأكد أمي من شكلي العام قبل أن أهم بالخروج. ا
ا
أخطو إلى الشارع أمام العمارة، ولسبب ما أنظر إلى السماء، فأفاجأ بسرب من العصافير البيضاء طائراً من يساري إلى يميني، وكأنه ظهر في نفس اللحظة التي لامست فيها قدمي أرض الشارع. أحملق للحظة في السماء، ثم للحظة في الأسفلت، ثم السماء مرة أخرى حتى أتأكد أنها ليست هلاوس، ولكن العصافير هناك. تطير بدون صوت، ولكنها بالتأكيد موجودة. أبتسم في تعجب قائلة لنفسي "عصافير إيه دي اللي بتطير بالليل؟!" أصل إلى مكان العزاء، وتبحث عيني تلقائياً عن دكتور سهير ومنى، أجدهما، فأتجه إلى دكتور سهير وأحتضنها طويلاً. أسلم على الموجودين ثم أجلس في المكان الخالي إلى جوار منى. أثبت عيني على الوجه الملائكي الذي يبكي تارة ويتمتم تارة، وأتمنى لو كان المكان بجوارها خالياً حتى أجلس بجانبها و"أطبطب" عليها. تلتقط أذناي من السماعات "وإن ربك لذو فضل على الناس ولكن أكثرهم لا يشكرون" فتتسارع الدموع إلى عيني دون سبب وأهمهم "بالحمد لله". ا
ا
أتشاغل بالنظر إلى الأطفال الموجودين مع أمهاتهم، فأجد أنهن ثلاث بنات، يرتدين بالصدفة جميعاً اللون الوردي، فأفكر في أنهن يبدون مثل الفراشات -تماماً مثل الفراشات. أتذكر أن فرح سلمى لم يمض عليه أسبوع، وأن ترقية دكتور سهير -التي تأخرت أعواماً- لم تكمل ثلاثة أيام، فأتعجب في صمت. ا
ا
تهم منى بالقيام فأدعوها لأن نستمع لربع آخر نقوم بعده. يبدأ المقرئ بسورة "مريم"، فأنظر لمنى ونبتسم سوياً، فقد كنا نتحدث عن تلك السورة بالأمس فقط. كنت أسري عن نفسي خلال محاضرة الأمس البشعة بكتابة الآيات الخاصة بقصة "ستنا مريم" -كما أحب أن أسميها- في دفتري. أتلو الآيات في سري مصاحبة لصوت المقرئ. أفكر في هذه الفتاة الصغيرة -تقول الروايات بأن عمرها لم يتعد الثلاث عشرة سنة عند حملها بالمسيح- في خوفها عندما يظهر لها سيدنا جبريل، فتحتمي بربها: "إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقياً". أفكر في قلقها ورعبها مما سيظنه قومها. أفكر في أنها كانت وحدها؛ طفلة وحيدة تتحمل كل ذلك. هل وسط كل الآلام النفسية والجسدية التي كانت تكابدها أثناء الولادة، كانت تعلم أنها تلد الحب والرحمة والآية؟ يوجعني قلبي دائماً عندما تأتي آية "فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسياً منسياً"، فأتمنى لو كنت معها لأمسك بيدها الصغيرة وأطمئنها بأن كل شيء سيكون على ما يرام. ا
ا
ينتهي الربع فننهض أنا ومنى. أحتضن دكتور سهير مرتين موصية إياها: ا
"Please be fine ya Doctor"
فترد بابتسامة منهكة: "ربنا يخليكوا ليا". أخرج أنا ومنى من القاعة فتلفحنا نسمة باردة، أحتمي منها بانكماشي على كتف منى. أخبرها عن "العصافير المجنونة اللي مش بتظهر غير للمجانين اللي زيّنا" فنضحك سوياً. نتمشى قليلاً قبل أن نفترق كل إلى وجهتها. أركب التاكسي وأنظر عبر الزجاج المغبش إلى المصابيح المضيئة في وسط ظلام الشارع، تبدو وحيدة و"بردانة"، ويبدو ضوئها خافتاً، ولكنها تلقيه بالرغم من كل شيء. ا

7 comments:

Anonymous said...

أتمني لو ظللت صامتة كأعوامي السابقة كما كنت مكتفية بذكرك أنتي وهاجر في صلاتي
...
ولكن أتمنى الآن لو كنت معكي لأمسك بيدك جالبة لكِ فراشات ومزهرية وردية تطمئن كلانا قليلاً
...
دمتي بمحبة ودامت فراشاتك وقوس قزح ينيرا قلبك يا نوران

Nour said...

آمين.. آمين
:))
بس هو مش ممكن أعرف مين اللي دايماً فاكراني وبتدعيلي الدعوات الحلوة دي اللي بتخلي الواحد يدمع على الصبح؟؟
:))
يا رب قلبك يفضل منوَّر.. حتى لو معرفتكيش
:)

روز said...

عمود نور وحيد أصفر، وبردان كمان!
..
حلو أوي تذكرك للسيدة مريم في معاناتها، وإن ده نتج عنه الحب والرحمة للبشرية في صورة سيدنا عيسى..
***
نور أنا بافتقد اللون الأزرق المميز لكتاباتك، بلاش الإسود ده والنبي..

صفا said...

أصبحت مدونتك رفيقتي الدائمة .. أحب ما تكتبين .. المصابيح الوحيدة والبردانة والتي تلقي ضوءها وإن كان خافتا ...صورة تلمس القلب

كأنني أنا said...

أثناء قراءتي لحروفك.. كانت تتسرب بداخلي نسمات من حنانٍ دافئ أشتاقه.. لا أدرك لها سببا بالتحديد.. خاصة وأن الحديث كان عن فقد أكرهه.. لكنني حقا تلمسته

وحين أتيتِ بذكرك لـ "ستنا مريم" بلغت بصدق ذروة الحنان.

فكرة راودتني:
كَثُر بسورة مريم ذكر اسم الله (الرحمن)

حنانك قادني الى منطقية الشعور


نوران.. دمتِ حنينة
:)))

أحمد جمال said...

على سبيل التأييد لكلامك .. انا بندهش جداً من جملة إني نذرت للرحمن صوماً فلن أكلم اليوم إنسياً .. بغض النظر عن مدى قوتها التعبيرية في حذ ذاتها .. انا بحب الجملة دي بشكل خاص وسورة مريم بشكل عام ، جداً

كتابتك جميلة اوي .. انا سعيد بجد اني اكتشفت المدونة

Nour said...

:رزان
الواحد ساعات كتير لما بيتأمل في معاناته في وقت من الأوقات.. مايملكش غير إنه يشكر فضل ربنا على الرحمة اللي ظهرت له بعدين، و إن كانت وقت الشدة ماتخطرلوش على بال...
وبالنسبة للأسود فأنتِ عارفة يا حنين بقى.. الحالة حكمت :)) ربنا يفتحها من عنده إن شاء الله
:)

:صفا
مدونتي تفخر برفقتك :)) صباح الجمال

:كأنني أنا
تعليقك فكرني بحد عزيز على قلبي قوي.. شكراً على الدعوة.. والدفا
:))
دمتِ أنتِ جميلة ودافئة وشفافة
:))

:أحمد جمال
سورة مريم أكتر سورة بحبها في القرآن فعلاً.. وخصوصاً الآيات بتاعة "ستنا مريم".. ومتشكرين يافندم على الإطراء.. بعض ما عندكم أكيد
:))