Thursday, June 18, 2009

تناتيف من حياتي




الساعة الواحدة ظهرًا.. ننهي تصحيح المائة ورقة الأولى - وتتبقى ثلاثمائة!
أسرح بنظري يمينًا نحو النافذة المطلة على الناحية الخلفية من حرم جامعتنا، فأرى من مكاني خضرة وشارع نظيف ومسلة لم أرها من قبل. أقف في مواجهة النافذة الخشبية لأتمطى قليلًا، مفكرة في أني لم أر هذا الجانب من الكلية قبلًا. تنهمك كل من فاطمة وهند أثناء التصحيح في مكالمات هاتفية للاطمئنان على ابنيهما: تنشغل هند بكيفية خروج عمر من السرير، بينما تنشغل فاطمة في اتصالات لترتيب من سيأتي بياسين من الحضانة!
أعود لتلال الورق وقلمي الأحمر الذي يصر غطاؤه على القفز نحو الأرض كلما أمسكته، فألتقطه مبتسمة ومخبرة إياه: "عارفة إنك زهقت والله بس أنا زهقت أكتر منك!" تشكو شيرين من الأرق الذي يطاردها ليلًا والإعياء الذي يتلوه نهارًا، وتبدو متعبة حقًا، فتسألها د. هالة عما تفضله من أغاني أم كلثوم الموجودة على هاتفها المحمول، فتختار "أمل حياتي"، فأخبرها ضاحكة أن ما يناسب موقفنا هذا هو "إنما للصبر حدود"! ننجز تصحيح مائتي ورقة بحلول الساعة الثانية والنصف وتقوم د. هالة بتسليمهم للكنترول قبل أن يغلق أبوابه. نعود للعمل في المائتين المتبقيتين ومع مرور الوقت وحر اليوم الذي لم تنجح مروحتا السقف في تلطيفه تمامًا، أكون أول البادئات بخلع الإيشارب من أجل المزيد من "التهوية"! وتتلوني فاطمة ثم د. هالة! أتربع على كرسي المكتب الذي أجلس عليه بعد خلع حذائي، ومع صوت الست ودندنة كل منا معه وإيشارباتنا الموضوعة أمامنا على المكاتب، أشعر وكأنني أجلس في صالة بيتنا!
أنفجر ضاحكة فجأة ثم أقرأ عليهم جزء من ترجمة أحد الطلاب:
"وقبل الإقلاع يجب أن تبحث عن أقرب راكب لك وتقوم بإيصال شريط حزام الأمان بينك وبين أقرب راكب وبذلك تجد نفسك بسهولة في الظلام." نضحك جميعًا وأضحك انا حتى تدمع عيناي.. التخاريف بقت فوق الوصف!!
ننهي الأربعمائة ورقة الساعة السابعة، ثم أتوجه أنا ود. هالة نحو سيارتها ومعي نصيبي الذي يبلغ مائتي ورقة أخرى للتصحيح المنزلي. نخرج من كليتنا للجامعة التي تبدو خاوية تمامًا، ثم منها إلى الشارع ونحن في أشد حالات "الفصلان"، فلا نقوى حتى على الحديث. تدير د. هالة مؤشر راديو السيارة فيصلنا صوت إذاعة الأغاني.. رغي سمج لمذيعين، ثم تنطلق شادية ب"يا حبيبتي يا مصر"، وعندما تصل لذلك الجزء الذي يذكر العناد والإصرار، أبتسم في صمت مفكرة في إن "والله يا شادية مافيش عناد ولا إصرار أكتر من اللي إحنا فيه!".. أسند مرفقي ورأسي إلى زجاج السيارة وأتشاغل بالنظر إلى السيارات المارة بجانبنا، وأمارس هوايتي الجديدة في قراءة اللوحات الحديثة للسيارات. تقع عيني أول ما تقع على لوحة عليها الحروف الثلاثة (ه ر ب)، ثم تنطلق من جانبنا لتمر من وراءها تمامًا سيارة أجرة على لوحتها (ن و ر)، فأبتسم مجددًا؛ فترداد اسمي مصحوبًا ب"هرب" في جملة واحدة لم يعد وقعه غريبًا على عقلي في الفترة الأخيرة..
ينفرج المرور بعض الشيء، فتنطلق السيارة، ومع الانفراجة يأتينا عبر الأثير صوت نجم الأغنية الوطنية "محمد ثروت" مع خطأ واضح في الاتصال، فيكرر المذيع: "آلو.. آلو.. ونقول آلو".. فيرد ثروت "بآلوهات" كثيرة جدًا لا يسمعها المذيع، ويستمر الموقف هكذا لنصف دقيقة، حتى يقطع صمتنا أنا ود. هالة حالة من الضحك الهستيري، تتساءل هي في وسطها: "هما كانوا بيصححوا لغة تانية هما كمان ولا إيه؟! إيه الفصلان ده؟!" نسكت لثوان قبل أن نبدأ في الضحك ثانية، حتى نهدأ تمامًا.
أصل للبيت ومعي الحقيبتان البلاستيك المحتويتان على المائتي ورقة المتبقيين. يراني عم محمد رجل الأمن فيصر على أن يحمل لي الحقيبتين، مع دعوات متوالية بأن يراني "دكتورة كبيرة".. أرن الجرس فتفتح لي أختي الباب، ثم تسألني ضاحكة: "إيه كيس محمصات عوف ده؟!" فأضحك أنا الأخرى حيث لم أتحقق مما هو مكتوب على الحقيبة منذ أخذتها من الكنترول. أدخل لأمي الغرفة وتنضم ريهام إلينا، فأخبرهما بنوادر أول يوم تصحيح فنضحك ثلاثتنا حتى تدمع أعيننا، مع بعض تعليقات أمي الحنينة من نوعية "يا عيني يا ربي.. عيال غلابة والله!" أغير ملابسي واغتسل استعدادًا للصلاة. أصلي ثم التجئ لسريري: جسمي مهدود وظهري "مفشفش" ورقبتي توجعني، ولكن مازال أحلى ما في اليوم "شويتين الضحك والتريقة". أفرح لخبر ذهابنا المرتقب للبحر، وأستمع لأغنية حنان ماضي "
البحر بيضحك لي" تيمنًا واستبشارًا واستعدادًا. أشد الغطاء عليّ بعد أن تنتهي حنان ماضي من غنوتها للبحر، متمنية أن أحلم به، ليكون زادًا لي في تصحيح مائتي ورقة غدًا!

Friday, June 05, 2009

حدوتة




.. الجو كان جميل؛ لا حر ولا برد، والشمس كانت حنينة والسحاب منتوَّر في السما زي غزل البنات.. تمام زي غزل البنات.. وبعدين في الشارع بقى كان كل الناس - اللي راكبين عربياتهم واللي ماشيين على رجليهم والواقفين في المحلات والطالين من البلكونات - كلهم كلهم كانوا مشغلين إذاعة الأغاني، وكان عليها أغنية حلوة قوي لعلي الحجار.. كان عمّال يقول:


ماعرف غير إني لقيت روحي.. ونجيت من همّي ونجيتك

وكإن المزيكا نازلة من السما.. هافّة مع الهوا الجاي من بعيد.. طايرة على جناح اليمام.. والناس بقى كانت كلها بتغني معاه، وكتير منهم كان بيميل مع صوته وهما متبسمين.. كإن الهم زال والحزن راح واختفى*.. كانوا كلهم من الناجيين، وكان على الأرض السلام وبالناس المسرة.. ا