Monday, November 16, 2009

رؤية


يا صديقي اسمعني أرجوك،
أرى نفسي في الحلم وكأنني نائمة على سريري، ثم أفتح عيني.. في الحلم أيضًا – فقط لأرى ظلامًا وكأنهما مغلقتان بإحكام، وكأنني أراقب نفسي من خارج جسدي في الحلم، ولكنني في الوقت ذاته بداخل جسدي أيضًا، أفتح عيني عن آخرهما حتى تكادا تخرجان من محجرهما، بدون أدنى فائدة. أبدأ في الهلع والصراخ، وأنزل من على سريري لأقع، ثم أقوم، ثم أتخبط بصناديق لا أراها ولا أعلم من أين أتت، والظلام لا يزال محيطًا. لا أفهم، لا أفهم، لا أفهم. أدور حول نفسي في مكاني محاولة العثور على مخرج، ولكن الظلام من داخل العينين وليس من خارجهما، فأين يمكن للمخرج من ذلك أن يكون؟!

للحظة أتوقف عن الصراخ والدوران في مكاني، فقط لأشعر بحضور طاغٍ يتملكني، حضور لا يمكنني وصفه لك سوى بأنه حضور "أبيض كالحليب"، حقًا لا أجد أي وصف آخر له. أشعر بالسكينة والهدوء يغزوان كياني فاستسلم لهما. يهدأ قلبي شيئًا فشيء ويحل السلام..

شيئًا فشيء أيضًا تنجلي الظلمة، ويحل مكانها بياض.. بياض.. لا تسئ فهمي؛ أنا لم استعد نظري في الحلم، ولم أعد لرؤية الأشياء مرة أخرى؛ فقط حل ذلك الأبيض المليء بالسلام محل الظلمة الموحشة. أتحسس المكان من حولي فأجد أحد تلك الصناديق التي تعثرت بها في بادئ الأمر.. أجلس عليه وأنا أتأمل في الأبيض الصاف، وأستكين تمامًا.

ما يحدث دائمًا هو أنني أستيقظ بعدها – في الحقيقة – فأفتح عيني فجأة على اتساعهما ثم أتلمس كل ما في الغرفة بيدي لأتأكد أنني أراه رؤى العين، وأنه ليس وهمي عن الغرفة، أو لعبة يمارسها علي عقلي ليحميني من فكرة فقداني لبصري.. ما يدهشني حقًا أنني في الحلم أملك أجمل عينين يمكن لك أن تراهما.. شكرًا شكرًا، أنا أعلم أن عيوني في الواقع جميلة، ولكن في الحلم هما شيء آخر، وكأنهما عينا جنية من الأحلام.. غريب، هه؟ أجمل عيون في العالم لا ترى شيئًا! صدقني يا صديقي، أنا لا أعلم إن كنت قد جننت بالفعل أم أنني لازلت أفقد البقية المتبقية من عقلي.. أصبح لزامًا علي أن ألمس كل شيء لأتأكد من وجوده. أنت مثلاً هنا: هاتان يداك، وهذا شعرك، وإذا قرصتك ستقول آي! آسفة، آسفة، أنت تتفهمني بكل تأكيد، ولذلك حكيت لك ما حكيته، أليس كذلك؟
أليس كذلك؟
...
...
...
أنت مازلت هنا.. أليس كذلك؟

Friday, October 30, 2009

شبابيك


الدنيا كلها شبابيك.. والسهر والحكاية والحواديت.. كلها دايرة عليك..*


أبص للعمارات اللي حوالينا.. على البيوت المنورة.. كل بيت في دولة جواه حكاية، وكل واحد في البيوت دي له حكاية جوة الحكاية، يا ترى في حد فيهم حكايته زي حكايتنا؟ البيوت أكترها منور بالنيون.. عارف مابحبش النيون؛ أبيض وساقع كده.. لكن بيقولوا إنه بيوفر في الكهربا!


***



أقف في الشباك وأديهم كلهم ضهري. أبص على دموعي وهي نازلة تنتحر من الدور السادس وبعدين الناس يدوسوا عليها وهما مش حاسين. بتعدي من فوقي طيارة أكيد شايلة حد مفارق واحشاه الوشوش إنما البعد بيخليه يشوف حبايبه بُعاد بُعاد وصغيرين زي النمل.. من غير وشوش..

بيهب شوية هوا ساقعين فجأة فأحاول أفتكر وشك يمكن أتدفى شوية.. أغمض عينيا وأحاول.. أعصر دماغي عصر ومافيش حاجة راضية تطلع.. أحاول أحاول أحاول ومافيش حاجة راضية تيجي إلا.. إلا وش بعيد بعيد وصغير صغير زي النمل..

ومايدفينيش ساعتها إلا دمعة نزلت تحصل إخواتها تحت رجلين اللي بيدوسوهم وهما مش حاسين..


***



في البلكونة اللي قصادنا على طول كرسيين وطرابيزة بامبو وكبايتين يظهر كان فيهم شاي وطقطوقة مليانة أعقاب سجاير. باسرح في البلكونة الفاضية وأتخيل إنها بلكونتنا.. ستارة تل أبيض منقوش بتهفهف في الهوا، وشيش! "ملعون أبو الألوميتال".. "رخم ودمه تقيل ومش بتاع جوِّنا أصلاً".. شيش أبيض كمان، بس إحنا مش هانسيبه أبيض طبعًا، هانجيب ألوان ونهريه رسومات – زي ما كنت باعمل في شيش جدتي وأنا صغيرة بالقلم الجاف الأزرق؛ ورد وشجر وفراشات، وبعديها أجري استخبى حتى مرور العاصفة! البلكونة محندقة كده، وأنا هايبقى البياض ابتدى يضرب في شعري إنما فشر! عاشت الصبغة حرة مستقلة! وهابقى لابسة قميص نوم قطن نُص كم زي بتوع جدتي تمام، أنت بقى.. هايبقى عندك كرش صغنن كده، وهاتبقى اصلعيت شوية – زي أبوك دلوقتي كده، هاتبقى علمتني شرب السجاير، وهابقى أنا علمتك ماتشربش الشاي من غير خلطة القرنفل والنعناع والقرفة بتاعتي.. عارف؟ هانبقى عواجيز بس والله هايبقى دمنا خفيف..

أرجع من سكة سرحاني على البلكونة اللي قصادنا ألاقي الستارة لسه بتهفهف في الهوا، والشيش نُص مردود.. ابتسم لهم وأقول لهم في سري: "تصبحوا على خير.. يا جوز عواجيز دمهم خفيف.."


***



"البنت المجنونة اللي بتكلم الياسمين!" كل يوم الصبح تطلع في بلكونتها الصغيرة تسقي الياسمين من كوز بمبى.. تسقيه بالراحة وبحنية غريبة؛ كإنها بتعد النقط الرايحة لياسمينة ياسمينة لاحسن واحدة تغير من أختها ولا حاجة، بعد ما تسقيهم تقعد تحكيلهم حواديت وهي بتطبطب عليهم؛ برضه ياسمينة ياسمينة. ساعات كتير تلاقي ياسمينة صحتها مش قد كده، تقوم بايساها دونًا عن إخواتها كلهم، وتقوم مغنيالها أول أغنية تخطر على بالها.. وبقدرة قادر، تاني يوم لازم تكون الياسميناية دية بالذات أكتر واحدة مزهزهة ومرعرعة وسط إخواتها كلهم.. جارها اللي في العمارة اللي قدامهم كان بيقول عليها مجنونة.. لاجل وهما صغيرين كانت تسيب كل العيال اللي بيلعبوا في الشارع وتروح تقعد قدام شجرة الياسمين المزهرة في الجنينة اللي قصادهم، ويوم ما غاظها وقعد يقطع الياسمين ويرميه في وشها، لقاها قامت لملمته بكل هدوء في جيوبها، بعدين بصت له وهوب! لقاها نطحته لحد ما وقعته وقعدت فوقيه وهاتك يا ضرب! وماخلصوش من إيدها يومها إلا أبوها الطيب وهو راجع من الشغل. بعديها بيومين وهو نازل مدرسته لقى جواب على باب بيته: "آسفة إني ضربتك. الياسمينة هي الشجرة الوحيدة المزهرة في الخريف. إوعا إوعا إوعا تعمل فيها كده تاني." كان فيه إرتباط شرطي بين الخريف وبين ريحة الياسمين اللي بتلطشه كل يوم من بلكونتها أول ما الخريف يهل.. كان في بلكونتها ورد وزرع كتير، لكن روحها وابتسامتها ماكنتش تنور غير أما الياسمين يزهر: "كل حاجة بتموت في الخريف إلا الياسمين.. الياسمين بيستنى أما الصيف يسحب آخر خيط ألوان فرايحي من الدنيا ويسيب للخريف الألوان الحزينة، ويقوم مزهر هو يمكن الخريف يفرح شوية!"

البنت المجنونة اللي بتكلم الياسمين.. البنت المفترية اللي ضربته وهو صغير.. البنت الغريبة اللي ساكنة في البلكونة اللي قصادهم.. زارعة في قلبه ياسمينة كبيرة مزهرة طول السنة.. مش في الخريف بس..


***



أفتح الشباك والبيت والدنيا نايمين وهُس هُس.. أطَلع إيديا في الهوا كإني فاردة جناحي.. أفتكر أما كنت صغيرة وكان أول نشاط ليا بعد ما أصحى إني أفتح شباك أوضتنا للآخر، وأقوم مدلدلة رجليا من بين قضبان السور الحديد وأقعد أمرجحهم مع إيديا.. كتير كنت أغمض عينيا وأمثل إني بطير وأنا باغني.. ومرة طرت طرت طرت لحد ما فقت على فردة الشبشب الأحمر واقعة في الجنينة! ساعات كتير نفسي بتهفني أعمل كده تاني، بس للأسف القضبان الحديد اللي كنت باطلع رجليا وإيديا من بينهم بنينا عليها حيطة دلوقتي وراح نُص الشباك! أبص للسما والأقي النجمة الوحدانية اللي طالعة في سما القاهرة، وأفكر إن زمان ماكنتش السما كده. أتأسف للسما والنجمة على اللي معمول فيهم في سري.. بعدين أسرح وأفكر إنه صحيح شبابيكنا ضاقت وصحيح سمانا اتخنقت وصحيح قوي نجومنا قلت؛ إنما إحنا لسة فاكرين شكل السما أم نجوم كتيرة من شباك كبير. أقولك؟ حط كل المشاهد دية في قلبك واقفل عليهم بالضبة والمفتاح، وإدي المفتاح لحد بتحبه.. يمكن يفتح نُص الشباك اللي عنده على نص الشباك اللي عندك ويرجعوا يبقوا شباك واحد كبير شايفين منه سما جديدة مبدورة نجوم..



Wednesday, September 16, 2009

سكة سفر



تمسك يدي بيدها العجوز.. تدقق النظر في باطن كفي وكأنها تستنطقه. بعد وهلة تخبرني بلهجة الواثق أن خطي الحب والموت يتقاطعان في كفي؛ فإما أنني سوف أموت حبًا أو أنني سوف أحب حتى الموت. لا أستوعب الفرق بين الاثنين فأسألها ضاحكة السؤال التقليدي: "طب مافيش في طريقي سكة سفر ولا حاجة؟"، فتمعن النظر في باطن كفي مرة أخرى لتخبرني بعدها وهي تحاوط كفي بيديها الاثنتين: "عندك سكتين سفر يا بتّي.. سكة جواكِ، وسكة براكِ.. سكتينك طوال.. بس ماتخافيش".. "وهاوصل يا خالة؟".. "يا بتّي.. السكة فيها الوصول، والوصول هو السكة". ثم ملست على كفي وكأنها تزيح عنه غبار المستقبل غير المرئي لتبلغني: "النقطة دية.. غربة.. بتحاوريها وتحاورك.. وتشاغليها وتشاغلك.. بتحوم حواليكِ وساعات تطولك وساعات لا.."

***
قرار مفاجئ بالسفر بعد الفجر.. أحب السفر وأحب المفاجآت وأحب هواء ما بعد الفجر.. هواء طازج بكر لم يتنفسه أحد قبلي. نأخذ الطريق الذي أحبه باتجاه المدينة التي أحبها والدنيا ما تزال تتثاءب من حولنا. يبدأ الطريق فأنظر بجانبي لأجد سيارة زرقاء صغيرة تتهجى لوحتها حروف كلمة "ونس" فابتسم: بداية جميلة.

لا أدري لم أذكرك دائمًا في سكك سفري؛ وكأنك مرتبط بكل مكان سافرت إليه أو أتيت منه أو عبرته يومًا. أطلب من أمي فتح الراديو على سبيل "الونس"، فيصاحبنا موال طويل وهادئ لفريد الأطرش لم أسمعه قبلاً، ولكنني ظننت أنه حقًا يناسب الصباح.

تنام أختي موسدة رأسها على كتفي الأيمن، وأخي على كتفي الأيسر. أظل مستيقظة، وكذلك أمي إلى جانب أبي الذي يقود السيارة. دائمًا ما تصر أمي على مصاحبة أبي في سكك سفره وبخاصة الموغل منها في الإبكار أو التأخير. أعرف أنها تعبة ولا تقوى على فتح عينيها، ولكن لا تغمضهما لأن قاعدتها الأولى تنص على أن غياب الونس ممن يجلس إلى جانب السائق قد يؤدي لغفلة عين السائق المرهق أصلاً. تجد أمي ذلك عاديًا جدًا بينما أجده أنا أمرًا مليئًا بالحب. لا أملك سوى أن أفكر فيك وفي أنه لو تلاقت سكتا سفرنا لتغير كل شيء..

ينتهي موال فريد لتبدأ أغنية فيروز "نسم علينا الهوا". أنظر أمامي فأجد الشمس المستيقظة لتوها تشرق من بين السحب. تنساب كلمات فيروز إلى أذني: "يا هوا دخل الهوا خدني على بلادي". يبدأ الصوت في التقطع تدريجيًا لخروجنا من دائرة إرسال مدينتنا، وعندما يصمت الصوت تمامًا بنهاية الأغنية، يبدا النوم في التسلل إلى جفوني. أسند رأسي أخي وأختي على كتفي بحرص بينما أغوص في المقعد الخلفي. وبينما لا يزال طيف صوت فيروز معلقًا في أجواء السيارة، تتعلق بقلبي جملة واحدة: "يا ونسي وبلادي وسكة سفري الطويل.. خدني على بلادي.."

Saturday, August 15, 2009

Saturday, August 08, 2009

ليلى

أجلس في وسط الغرفة المجددة حديثًا: أمامي ثلاثة صناديق تمتلئ بالكتب والأوراق وحاجياتي الصغيرة التي يجب عودتها لأماكنها، بالإضافة إلى طبق غسيل ينتظر أن ينشر منذ الصباح - أفضل وقت لنشر الغسيل هو الليل لو تعلمون. تبدو الغرفة جديدة وهادئة ولكنها مازالت "مش واخدة عليا". أقرر أن أبدأ التعارف بيننا بطريقتي التقليدية. أوصل حاسبي المحمول بالكهرباء، وأتجول بين ملفات الأغاني، فأجد نفسي بداخل ركن ليلى مراد. أدع الحظ يختار الأغنية، فينطلق صوتها مغنيًا "ياللا تعالى قوام ياللا.. دانتا واحشني كتير والله".. دائمًا ما يبدو صوت ليلى مراد كصوت عصفورة مزقزقة فرحة. تبدأ الأغنية بموسيقى تفرح القلب وتبهجه وكأنها "تزغزغه" فتجبره على الابتسام! نسختي من تلك الأغنية هي جزء من فيلم "من القلب للقلب".. تتخلل كوبليهات الأغنية أصوات الممثلين الآخرين بالفيلم. ا
أواصل نشر الغسيل مع صوت ليلى في الخلفية مفكرة أن "ناس زمان دول كانوا حلوين قوي!" ناس زمان كانت أساميهم هدى وعادل وغالب وأحلام وعنايات، وكلما حدث حدث جلل، سواء مفرح أو محزن، ينطلقون بالغناء.. ناس زمان كانوا يبعثون بالجوابات لعادل ليخبروه أن هدى تفتقده وأنه يجب أن يأتي "قوام"! ناس زمان كانوا يقولون "صباح الخير يا نينة"، فيأتي الرد "يسعد صباحك يا بنتي".. ناس زمان كانوا يهدون بعضهم البعض الورد، ويطبخون الألماظية ويحيكون هداياهم! ا
ليلى يا ليلى.. إسمعها وهي تقول "تعالى لي قوام.. قوام.. قوام".. ألا يشبه صوتها في تلك الجملة بالذات رفيف أجنحة الملائكة؟ إستمع لها أيضًا في ذلك الجزء: "أيام تفوت يوم ورا ليلة.. وأصحى وأحلم في خيالك.. والدنيا حلوة وجميلة.. وأحلى من الدنيا جمالك" لأ صحيح.. هوفيه كده بجد؟! تتساءل "يا هل ترى هافرح بهواك.. ولا هواك كله أشواك؟"، فتشفق على ذلك الكائن الملائكي من تلك الأشواك وإن كانت مجازية.. ا
أنهي نشر الغسيل وأبدأ في ترتيب كتبي وأشيائي. يعود أبي من الخارج ليفتح باب الغرفة ويعطيني شوكولاتتي المفضلة، فأبدأ في تناولها وأنا مستمرة في العمل. عند اقتراب الأغنية من نهايتها تقول دولت أبيض: "الربيع دخل بيتنا" تعليقًا على غناء هدى/ليلى.. أرتب آخر أوراقي وأنظر للغرفة فأحس بأنها قد أصبحت أكثر ألفة؛ وكأنها عادت غرفتي من جديد. ا
أستعد للنوم بإغلاق الجهاز، فتطل علي صورتها التي تزين خلفية حاسبي وهي على صخرتها الشهيرة. ألقي نظرة أخيرة على الغرفة العائدة وأهمس لها قبل أن أطفئ الشاشة: "تصبحين على خير يا ليلى.." ا

Sunday, July 26, 2009

Thursday, June 18, 2009

تناتيف من حياتي




الساعة الواحدة ظهرًا.. ننهي تصحيح المائة ورقة الأولى - وتتبقى ثلاثمائة!
أسرح بنظري يمينًا نحو النافذة المطلة على الناحية الخلفية من حرم جامعتنا، فأرى من مكاني خضرة وشارع نظيف ومسلة لم أرها من قبل. أقف في مواجهة النافذة الخشبية لأتمطى قليلًا، مفكرة في أني لم أر هذا الجانب من الكلية قبلًا. تنهمك كل من فاطمة وهند أثناء التصحيح في مكالمات هاتفية للاطمئنان على ابنيهما: تنشغل هند بكيفية خروج عمر من السرير، بينما تنشغل فاطمة في اتصالات لترتيب من سيأتي بياسين من الحضانة!
أعود لتلال الورق وقلمي الأحمر الذي يصر غطاؤه على القفز نحو الأرض كلما أمسكته، فألتقطه مبتسمة ومخبرة إياه: "عارفة إنك زهقت والله بس أنا زهقت أكتر منك!" تشكو شيرين من الأرق الذي يطاردها ليلًا والإعياء الذي يتلوه نهارًا، وتبدو متعبة حقًا، فتسألها د. هالة عما تفضله من أغاني أم كلثوم الموجودة على هاتفها المحمول، فتختار "أمل حياتي"، فأخبرها ضاحكة أن ما يناسب موقفنا هذا هو "إنما للصبر حدود"! ننجز تصحيح مائتي ورقة بحلول الساعة الثانية والنصف وتقوم د. هالة بتسليمهم للكنترول قبل أن يغلق أبوابه. نعود للعمل في المائتين المتبقيتين ومع مرور الوقت وحر اليوم الذي لم تنجح مروحتا السقف في تلطيفه تمامًا، أكون أول البادئات بخلع الإيشارب من أجل المزيد من "التهوية"! وتتلوني فاطمة ثم د. هالة! أتربع على كرسي المكتب الذي أجلس عليه بعد خلع حذائي، ومع صوت الست ودندنة كل منا معه وإيشارباتنا الموضوعة أمامنا على المكاتب، أشعر وكأنني أجلس في صالة بيتنا!
أنفجر ضاحكة فجأة ثم أقرأ عليهم جزء من ترجمة أحد الطلاب:
"وقبل الإقلاع يجب أن تبحث عن أقرب راكب لك وتقوم بإيصال شريط حزام الأمان بينك وبين أقرب راكب وبذلك تجد نفسك بسهولة في الظلام." نضحك جميعًا وأضحك انا حتى تدمع عيناي.. التخاريف بقت فوق الوصف!!
ننهي الأربعمائة ورقة الساعة السابعة، ثم أتوجه أنا ود. هالة نحو سيارتها ومعي نصيبي الذي يبلغ مائتي ورقة أخرى للتصحيح المنزلي. نخرج من كليتنا للجامعة التي تبدو خاوية تمامًا، ثم منها إلى الشارع ونحن في أشد حالات "الفصلان"، فلا نقوى حتى على الحديث. تدير د. هالة مؤشر راديو السيارة فيصلنا صوت إذاعة الأغاني.. رغي سمج لمذيعين، ثم تنطلق شادية ب"يا حبيبتي يا مصر"، وعندما تصل لذلك الجزء الذي يذكر العناد والإصرار، أبتسم في صمت مفكرة في إن "والله يا شادية مافيش عناد ولا إصرار أكتر من اللي إحنا فيه!".. أسند مرفقي ورأسي إلى زجاج السيارة وأتشاغل بالنظر إلى السيارات المارة بجانبنا، وأمارس هوايتي الجديدة في قراءة اللوحات الحديثة للسيارات. تقع عيني أول ما تقع على لوحة عليها الحروف الثلاثة (ه ر ب)، ثم تنطلق من جانبنا لتمر من وراءها تمامًا سيارة أجرة على لوحتها (ن و ر)، فأبتسم مجددًا؛ فترداد اسمي مصحوبًا ب"هرب" في جملة واحدة لم يعد وقعه غريبًا على عقلي في الفترة الأخيرة..
ينفرج المرور بعض الشيء، فتنطلق السيارة، ومع الانفراجة يأتينا عبر الأثير صوت نجم الأغنية الوطنية "محمد ثروت" مع خطأ واضح في الاتصال، فيكرر المذيع: "آلو.. آلو.. ونقول آلو".. فيرد ثروت "بآلوهات" كثيرة جدًا لا يسمعها المذيع، ويستمر الموقف هكذا لنصف دقيقة، حتى يقطع صمتنا أنا ود. هالة حالة من الضحك الهستيري، تتساءل هي في وسطها: "هما كانوا بيصححوا لغة تانية هما كمان ولا إيه؟! إيه الفصلان ده؟!" نسكت لثوان قبل أن نبدأ في الضحك ثانية، حتى نهدأ تمامًا.
أصل للبيت ومعي الحقيبتان البلاستيك المحتويتان على المائتي ورقة المتبقيين. يراني عم محمد رجل الأمن فيصر على أن يحمل لي الحقيبتين، مع دعوات متوالية بأن يراني "دكتورة كبيرة".. أرن الجرس فتفتح لي أختي الباب، ثم تسألني ضاحكة: "إيه كيس محمصات عوف ده؟!" فأضحك أنا الأخرى حيث لم أتحقق مما هو مكتوب على الحقيبة منذ أخذتها من الكنترول. أدخل لأمي الغرفة وتنضم ريهام إلينا، فأخبرهما بنوادر أول يوم تصحيح فنضحك ثلاثتنا حتى تدمع أعيننا، مع بعض تعليقات أمي الحنينة من نوعية "يا عيني يا ربي.. عيال غلابة والله!" أغير ملابسي واغتسل استعدادًا للصلاة. أصلي ثم التجئ لسريري: جسمي مهدود وظهري "مفشفش" ورقبتي توجعني، ولكن مازال أحلى ما في اليوم "شويتين الضحك والتريقة". أفرح لخبر ذهابنا المرتقب للبحر، وأستمع لأغنية حنان ماضي "
البحر بيضحك لي" تيمنًا واستبشارًا واستعدادًا. أشد الغطاء عليّ بعد أن تنتهي حنان ماضي من غنوتها للبحر، متمنية أن أحلم به، ليكون زادًا لي في تصحيح مائتي ورقة غدًا!

Friday, June 05, 2009

حدوتة




.. الجو كان جميل؛ لا حر ولا برد، والشمس كانت حنينة والسحاب منتوَّر في السما زي غزل البنات.. تمام زي غزل البنات.. وبعدين في الشارع بقى كان كل الناس - اللي راكبين عربياتهم واللي ماشيين على رجليهم والواقفين في المحلات والطالين من البلكونات - كلهم كلهم كانوا مشغلين إذاعة الأغاني، وكان عليها أغنية حلوة قوي لعلي الحجار.. كان عمّال يقول:


ماعرف غير إني لقيت روحي.. ونجيت من همّي ونجيتك

وكإن المزيكا نازلة من السما.. هافّة مع الهوا الجاي من بعيد.. طايرة على جناح اليمام.. والناس بقى كانت كلها بتغني معاه، وكتير منهم كان بيميل مع صوته وهما متبسمين.. كإن الهم زال والحزن راح واختفى*.. كانوا كلهم من الناجيين، وكان على الأرض السلام وبالناس المسرة.. ا



Wednesday, May 13, 2009

".. وجع لا يحن إلى وجع"

زارته في الحلم شفافة رقراقة.. كما عهدها دائمًا..
كانت ترتدي فستانًا أزرقًا فضفاضًا، ووشاحًا وردياً ينساب من خلاله شعرها الأسود الطويل. لم يتحدثا طوال الحلم ولكنها ظلت تبتسم له في صمت بهي..
جلسا على الأرض سويًا، بينما أحاطت بطنها الناتئة بكفيها، وعندها فقط لاحظ أنها ليست وحدها..
كانت تحوطها هالة من الصفاء، وبدت كقديسة في صمتها وابتسامتها الخفيفة.. كانت في عينيها اللوزيتين تلك النظرة.. النظرة التي رآها آخر مرة، غير أنها لم تكن تبكي الآن. بالعيون شجن خفي لن يلحظه إلا إياه، ولكنه رأى أنها مفعمة بالسكينة؛ ليست سعيدة ربما، ولكن ربما أيضًا هو الرضا الذي طالما تمنته..
مدت يدها إليه بينما مازالت يدها الأخرى على بطنها.. حاول أن يلمسها فلم يستطع - على قرب المسافة بينهما..
استيقظ ليجد يده ممدودة في الهواء طلبًا للمسة قديسة لم ينلها..
قام من سريره ليشعل سيجارته ويعد قهوته. أطل من نافذة غرفته على المدينة الثلجية الشاسعة، ونفث دخان سيجارته في هواءها. لم يحلم بها منذ سنوات؛ منذ تقطعت بهما السبل، وسكت الكلام. فكر في أنها طالما قد زارته، فقد سامحته. ربما أيضًا أرادت إخباره أنها ستصبح أمًا، مثلما تمنت دائمًا..
تناول الكتاب الذي كانت قد أهدته له يومًا، وكانت يداه تعرف طريقهما جيدًا: تلك الصفحة التي كتبت أعلاها بخطها الطفولي "أنا وأنت" ثم قرأ السطور التي امتد تحتها الخط الرصاصي:
"الحنين وجع لا يحن إلى وجع. هو الوجع الذي يسببه الهواء النقي القادم من أعالي جبل بعيد.. وجع البحث عن فرح سابق.."

Tuesday, May 05, 2009

نهاية العالم

جلست في نهاية الشارع الخاوي ليلًا: هي على مقعد خشبي عجوز، وأمامها حاسبها المتنقل على منضدة خشبية أيضًا. انهمكت في الكتابة على الحاسب بينما تتلفت حولها من حين لآخر في توتر. كانت تنتظر حدوث الأمر بين لحظة وأخرى ولكنها لم تعرف متى يبدأ بالضبط.
على جانبي الشارع صفان من البنايات المهجورة وصفان من أعمدة النور. كانت أنوارهم جميعًا مضاءة.. تعرف هي ذلك لأنها هي التي أوقدتهم.. واحدًا واحدًا.
تنهمك في الكتابة بسرعة حتى تكاد أصابعها أن تتشابك معًا. تريد أن تخبره بكل ما أرادت أن تخبره إياه قبلًا ولم تستطع، ولكنها لا تعلم إن كان الوقت سيكفي أم لا. تسأله بين الفينة والأخرى إن كان الأمر قد حدث عنده أم لا، فيجيبها أن ليس بعد، ولكنه يشعر باقترابه.
يظهر لها إنذار على أسفل يمين الشاشة بأن البطارية توشك على النفاد، فيتقلص قلبها: إنهم هنا.
تسرع من كتابتها بدون أن تنظر للردود التي طالما انتظرتها طويلًا. تبدأ بطارية هاتفها المحمول أيضًا في الاستغاثة، فلا تجد مجالًا حتى لتهمهم "باللعنة". يخبرها أن الأمر قد بدأ في الحدوث عنده.. في النصف الآخر من العالم، فهو إذن منها بقريب. يوصيها بأن "تخلي بالها من نفسها"، وبألا تستسلم. توصيه بالمثل، ثم تتردد لبرهة قبل أن تخبره أنها تحبه، وأنها تعلم أن الوقت المناسب لقول ذلك قد فات. يرد بابتسامة قائلًا لها أن الوقت لا يفوت أبدًا لقول هكذا شيء. يرسل لها قبلة افتراضية ثم يختفي من على الشاشة. تتجمد في مكانها وقد أيقنت أنها قد أصبحت الآن وحدها.. تمامًا.
تتشبث بالمنضدة بيديها الإثنتين ناظرة إلى بداية الشارع الذي تجلس بنهايته. تحدق في أعمدة الإنارة المنتصبة هناك منتظرة حدوث الأمر في أية لحظة. لا يطول إنتظارها كثيرًا حتى تبدأ الأعمدة في الإنطفاء. تبدأ جيوش العتمة في الزحف نحوها مطفئة كل نور في طريقها. تنطفئ أنوار الشارع فأنوار البيوت واحدًا تلو الآخر. تظل جالسة في مكانها محدقة في الآت. تقترب الظلمة شيئًا فشيء حتى تنطفئ شاشة حاسبها، فشاشة هاتفها المحمول الذي تمسكه بيد مرتعشة. لا يتبق سواها في العتمة، وسكون مطبق يلف العالم من حولها.

Tuesday, April 21, 2009

On scars

- "But I do think your scars are beautiful," she said with a smile, gently touching the dark mark stretching from his palm along the backside of his arm.
- "How so?," he asked.
- "A scar means that there once was a wound here and it healed. Even the scars here," she said, putting her hand on the left side of his chest, right where the heart is, while still holding his hand in hers and looking him straight in the eyes, "a scar means that life took something away from you but you didn't just give in. You fought back. You've chosen to live rather than bleed to death, and as a reward, life gave you such a beautiful dark scar. We are, after all, the sum of all our scars."
There was a moment of silence, then she said: "I think I'm in love with your scars," and she giggled.
He smiled back at her. He was finally HOME.

Sunday, April 12, 2009



أنتِ يا ذات الضحكة الحلوة..

تكونين في وسط الصحبة، وفي قلب الصخب تشع ضحكتك لتدفئ قلوب من حولك، تتناثر الكلمات هنا وهناك، وتصيبك واحدة - عفواً - فتغيض ابتسامتك فجأة، وكأن سحابة تعبر وجهك. تشردين فيما يتراجع صخب الصحبة إلى الخلفية. تشردين عبر البحار والأنهار والليل الذي يفصلكما - وهل هو في نفس اللحظة يشرد بعينيه بعيداً، ويتذكرك؟ - تلكزك إحداهن مداعبة إياكِ؛ فتقفز الابتسامة آلياً إلى موضعها الأول، ولكنها أبداً.. أبداً لا تعود مثل الابتسامة الأولى. يعود الصخب، وتعود ضحكتك لتدفئ قلوب من حولك، ولكن من يدفئ قلبكِ أنتِ؟

Saturday, April 04, 2009

آخر مرَّة


"آخر مرة.. آخر مرة".. رددت جنبات عقلها الكلمات في محاولة فاشلة للاستيعاب. وحينما قال لها بطريقته المسرحية المعهودة - محاولاً أن يبدو ممازحاً - "وداعاً"، أجفلت. ولكنها سرعان ما ردت بضحكة مرتبكة - محاولة أن تبدو ممازحة أيضاً - "خلاص نويت تنتحر؟! إوعى تعملها من غيري!". ضحك. ضحكت. انتهت المكالمة.

ظلت تحملق في السقف المصمت - والذي لا تراه أصلاً عبر ظلام الغرفة. آخر مرة. ضمت الهاتف إلى صدرها (حيث يفترض بالقلب أن يكون) وهي تتساءل عن الوقت الذي سيأخذه نسيانه لصوتها / نسيانها لصوته. آخر مرة. أحست بالألم يتصاعد داخلها - كموجة مَدّية كبيرة توشك أن تقتلعها من مكانها - فأخرسته بقرارها: غداً، ستتظاهر بأنه لم يوجد قط. غداً، ستتظاهر بأن النور لم يولد أبداً. غداً، ستتظاهر بأنها ما زالت حيَّة.

Wednesday, April 01, 2009

من جوَّة الكابينة

ا - ليه يا نوران بتسكتي عند حاجات بسيطة؟
ا - ساعات يا دكتور لما بيضيع مني أول الجملة، مش باعرف أكمل بعديها.. ا
- You have to learn to let go.. You have to learn to fill the gaps; even when your expectations are deafeted..
ضاع منك أول الجملة، و إيه يعني.. ضاعت منك كام كلمة، برضه وإيه يعني.. مايهمكيش وخُشي بقلب جامد.. وهي دي شطارة "المترجم الفوري".. ا
--
محاضرة الترجمة الفورية 1 أبريل 2009
حوار بيني وبين ست جميلة قوي.. اسمها سهير محفوظ. ا
ا *الصورة: طوفي وبونبوني من د. سهير: عدة الترجمة الفورية :) ا

Saturday, March 28, 2009

؟

ما بين خَوفِنا مِمّا هو آتٍ لا مَحالة، وتَمَسُكِنا بأهداب اللَحْظة المُنفَلِتَة -أيضاً لا مَحالة- قُل لي يا عَزيزي: كَيف نَسينا أن نَعيش؟

Friday, March 27, 2009

بيان حالة


صورة سطح المكتب لأمل كعوش - مدونة على أي حال*

Friday, March 20, 2009

ا - والله الموضوع ده ظريف قوي، أنا عمري ما جربته! ا

أنا نسيت باريس قد إيه جميلة.. ا
ا - السياحة مش حاجة وحشة برضه
ا - شكراً إنك ركبتني المركب
ا - يا ستي العفو
عارفة، بيتهيألي الكتاب اللي كتبته ده كان زي ما أكون بأبني حاجة، عشان مانساش تفاصيل الوقت اللي قضيناه سوا.. يعني، عارفة، حاجة كده تفكرني إن إحنا حقيقي اتقابلنا بجد،وإن ده كان حقيقي بجد، إنه حصل فعلاً، فاهماني؟
ا - فاهماك جداً.. يعني.. أنا دايماً باحس إني مش طبيعية عشان عمري ما باعرف أكمل حياتي.. كدهوه! عارف؟ يعني، الناس بيصاحبوا بعض، وساعات يرتبطوا بجد كمان.. بعدين يسيبوا بعض..وينسوا. عادي يعني بيكملوا حياتهم تاني كإنهم مثلاً غيروا نوع النسكافيه اللي بيشربوه الصبح! ا
أنا باحس إني عمري ما بأقدرأنسى أي حد كنت معاه.. عشان عارف، كل بني آدم ليه الصفات المعينة بتاعته
عمرك ما تقدر تجيب حد مكان حد، اللي بيروح.. بيروح خلاص
كل علاقة أما بتنتهي بتبوظني بجد.. وعمري ما باخف تماماً، وعشان كده أنا بآخد بالي قوي قبل ما أتورط مع أي حد، عشان الموضوع بيوجع قوي! ا
أنا حتي مش باسمح للمواضيع تتطور أكتر من كده.. يعني.. هتوحشني في الواحد ده أهيف الحاجات الممكن تصورها
زي ما أكون عندي هوس بالحاجات الصغيرة. ا
يمكن أنا مجنونة، بس.. لما كنت صغيرة، ماما قالتلي إني دايماً باتأخر ع المدرسة. مرة مشيت ورايا عشان تعرف ليه.. لقيتني باسرح في "أبو فروة" وهو بيقع من ع الشجر.. بعدين يتدحرج على الرصيف، أو.. باتفرج على صف نمل بيعدي الشارع.. ولا ضلِّة ورق الشجرة على جذعها.. حاجات صغيرة.. ا
بيتهيألي إن الموضوع هو هوَّاه مع الناس.. ا
باشوف فيهم تفاصيل صغيرة، بتميز كل واحد عن التاني، التفاصيل دي بتأثر فيا.. وبتوحشني، وهاتفضل واحشاني على طول
عمرك ما تقدر تستبدل حد، عشان كل واحد فينا بيتكون من تفاصيل جميلة ومحددة كده.. ا
زي كده مانا فاكرة.. دقنك كان فيها شعرات محمرة شوية، أنا فاكرة كويس إزاي كانت الشعرات دي بتلمع في الشمس، يوميها الصبح، قبل ما تمشي على طول.. ا
أنا فاكرة ده، ووحشني! ا
أنا مجنونة بجد، مش كده؟
ا - أوكيه، دلوقتي أنا اتأكدت
عايزة تعرفي أنا ليه كتبت الكتاب الغبي ده؟
ا - ليه؟
عشان تيجي التوقيع بتاعه في باريس، وأقرب منك وأقولك: ا
"أنتِ كنتي في أنهي داهية؟"
ا - لأ.. بجد.. تفتكر إني فعلاً كان ممكن أبقى موجودة هنا معاك النهارده؟
ا - أنا باتكلم بجد على فكرة، بيتهيألي إني بطريقة ما كتبته عشان أحاول ألاقيكي
ا - أوكيه.. ممم.... يعني أنا عارفة إن ده مش حقيقي، بس حلوة منك عامة
ا - لأ بيتهيألي إنها حاجة حقيقية فعلاً
تفتكري كانت إيه احتمالات إن إحنا نتقابل تاني؟
ا - بعد ديسمبر إياه، يتهيألي صفر. ا
بس إحنا أصلاً مش بجد، صح؟ إحنا.. شخصيتين في حلم ست عجوزة، هي على "فراش الموت" وعمالة تفتكر شبابها وتتخيل كل اللي كان ممكن يكون.. فيعني أكيد كان لازم نتقابل تاني! ا
ا - يا الله! أنتِ ليه ماكنتيش في فيينا؟
ا - مانا قلتلك ليه.. ا
ا - أيوة أنا عارف.. بس.. كان نفسي قوي تبقي هناك! حياتنا كان ممكن تتغير تماماً! ا
ا - تفتكر؟
ا - بصراحة آه
ا - ويمكن لأة، يمكن كنا هانكره بعض في الآخر
ا - آه صح.. ده زي ما بنكره بعض دلوقتي كده؟
ا - مش قصدي، بس يمكن إحنا بنبقى لطاف بس في المقابلات القُصيرة، ولا التمشية في أوربا لما الجو يكون دافي! ا
ا - يا ربنا!! إحنا ليه ماخدناش نمر تليفونات بعض والحاجات دي؟ ليه؟
ا - ممم.. عشان إحنا كنا صغيرين وهُبل؟
ا - تفتكري إحنا لسة كده؟
ا- بيتهيألي إنك لما بتبقى صغير، بتبقى مصدق قوي إنه هيبقى فيه ناس كتير هتلاقي معاهم "الكونكشن" دي، بس أما بتكبر شوية بتكتشف إن الحاجات دي بتحصل قليل جداً
ا - أيوة وممكن الواحد يبوظ الدنيا، يعني، يضيع الكونكشن دي
ا - بص، اللي فات فات خلاص، واللي حصل في الماضي كان متقدر له يبقى كده.ا
ا - أنتِ فعلاً بتعتقدي في ده؟ يعني إن كل حاجة متقدرة؟
ا - يعني، ممكن نكون بنبالغ في تقدير نسبة الحرية اللي الدنيا ماشية بيها
ا - تفتكري؟
ا - آه.. كل ما نفس الظروف تتكرر، نفس الحاجة هتحصل كل مرة. إتنين هايدروجين زائد واحد أكسجين، هايدوك مية في كل مرة. ا
ا - لا لا لأ.. أنا قصدي، تخيلي لو جدتك كانت عاشت أسبوع زيادة، أو ماتت بدري أسبوع، أو بدري كام يوم حتى، عارفة، كان ممكن حاجات كتير تتغير، أنا مقتنع بده! ا
ا - لأ لأ، ماينفعش تفكر كده على فكرة
ا - أنا قصدي.. يعني أوكيه، أنا عارف أنه مش المفروض أفكر في معظم الحاجات بالطريقة دي، بس هو بس في موضوعنا ده، كإن كان فيه حاجة غريبة كده! مش عارف! يعني.. ا

في الكام شهر اللي قبل فرحي، كنت بافكر فيكي طول الوقت. يعني حتى وأنا رايح الفرح، وأنا في العربية، كان فيه واحد صاحبي بيوصلني، وأنا مبحلق في إزاز العربية، وفجأة بيتهيألي إني شفتك! في حتة قريبة من الكنيسة اللي كان فيها الفرح.. أوكيه؟ كنتي بتقفلي شمسيتك وبعدين دخلتي محل على الناصية اللي بين شارع 13 وبرودواي، وبعدين أنا قلت إني أكيد اتجننت، بس عارفة؟ دلوقتي أنا أعتقد إن ده كان إنتِ فعلاً
ا - أنا بيتي كان على ناصية شارع 11 وبرودواي
ا -شفتي بقى؟

---

Before Sunset ترجمة بتصرف لمشهد من فيلم

Thursday, March 19, 2009

"عَذابات البَشَر أصْلاً لا تُحتَمَل"
ا
Virus C - محمود عزت

Saturday, March 14, 2009

عن الوطن

كان الوقت متأخراً، وكان أسفلت الشارع الخالي يلتمع تحت الضوء الأصفر لمصابيح وسط المدينة، وبعد مرور عربة الرش. تمر سيارة مسرعة من وقت لآخر. في جزيرة العشب التي تتوسط الميدان وتحت التمثال جلسا: غريبان تجللهما رائحة العشب المندي؛ "رائحة طفولتها" كما تسميها. قبضت براحتها اليمنى على قليل من العشب وأغمضت عينيها. تلامست يدها ويده عفواً فنظرا إلى بعضهما البعض ولم يقولا شيئاً. تنهدت ثم قالت له: "أبكي كل ليلة حتى أنام. لا أعرف لماذا أبكي أو علام، ولكنني أبكي وأبكي وأبكي حتى تبتل الوسادة. أبكي كل ليلة حتى أنام." نظر إليها طويلاً، ثم التفت أمامه قائلاً لها: "استيقظ فَزِعاً كل ليلة. أشعر بيد تعتصر عنقي فأصحو لاهثاً وأنا أتصبب عرقاً. تمر دقائق قبل أن أستطيع معاودة النوم، وحتى عندما أفعل.. أكون خائفاً.." اقتربت منه حتى تلاصق كتفاهما، ثم اسندت رأسها على كتفه. ابتسم ابتسامة صغيرة ولم يقل شيئاً، ولكنه بدأ في دندنة تلك الأغنية التي ظن أن أحداً غيره لا يعرفها.. فاجئته بمشاركتها في دندنة نفس اللحن. بدأ في الغناء بصوت مرتعش: "يا أنا.. يا أنا"، فأكملت له: "يا سكر بالهنا"، وهي ظنت أن صوته أجش ولكن جميل.. استكملا الأغنية ثم نهض آخذاً بيدها ليسيرا معاً في شوارع وسط المدينة التي تبدو في هذا الوقت كمشهد من أحد أفلام الخمسينات؛ هو يحاوط جسدها النحيل بذراعه، وهي تدفئ يدها في جيب معطفه. كانت تفكر في أنها لن تبكي الليلة، وكان هو يفكر في أنه لن يخاف الليلة. مشيا يستندان إلى بعضهما البعض، وفي المدى كان صوتهما يغني: ا
ده منايا.. يا هنايا
أسكن في الوطن
هاتجيني.. تلاقيني
ساكن في الوطن

Friday, March 06, 2009

"حمادة"

أجلس على كرسي الفوتيه مرخية رأسي على المسند. يئن جسدي من تعب ثلاثة أيام لم أنم فيهم أكثر من ساعتين متصلتين. وما بين الجنازة والعزاء وحتمية النزول للكلية ثم الرجوع إلى بيت عمتي والعودة إلى منزلنا ليلاً- كل ذلك على خلفية صيام رمضان؛ يقارب جسدي على التهاوي، ولكن النوم يعاندني بالرغم من كل شيء. أغمض عيني قليلاً، فقط لأفتحهما على تربيتة عمتي على كتفي: "قومي نامي يا نوران"، ابتسم ابتسامة مرهقة مخبرة إياها أنه لا توجد مشكلة. تأخذني من يدي: "تعالي نامي في سريره". يبدو الضمير في كلمة "سريره" مبهماً بالنسبة لي حتى تفتح باب الغرفة ثم النور، فتتأكد شكوكي: سريره هو سريره إذن. تغلق الباب ورائها فأنظر للغرفة نظرة شاملة قبل أن أهم بخلع الإيشارب. على الحائط ملصقات للاعبي الزمالك الذي كان هو مشجعهم الوحيد في العائلة، كان أبي دائماً ما يداعبه قائلاً له أنه "زرع شيطاني"، ولم يسلم من مناكفات شباب العائلة عند أية هزيمة تلحق بفريقه المفضل. البذلة العسكرية ذات النجمتين معلقة على مقبض الدولاب في إنتظار من لن يأتي، وتحتها صورة له مرتدياً إياها مع الكاب العسكري. من ترتيب الغرفة والملاءة المشدودة، أفهم أنني أول من تنام بعده في السرير -وأتغطى بغطاك يا محمد، وأنام على مخدتك يا محمد- أشم رائحته في الأغطية، فأتكور على نفسي تحت اللحاف وأغمض عيني على دمعتين كادتا أن تفرا. ا

يستعصى النوم في البداية ولكني أظل على إغماض عيني. أشعر ببرودة يديّ وقدميّ، فأزيد من تكوري على نفسي في الوضع الجنيني الذي أتخذه. يصل أبي وأمي وتسأل أمي عني، فتخبرها عمتي أنني نائمة قليلاً. يصلني صوت أمي عبر الباب المغلق فأتذكر ما قالته لي قبل أن أغادر المنزل صباحاً. كنت قد لاحظت في أثناء ارتداء ملابسي بعض البقع المزرقة في يديّ ورجليّ، كأنني قد اصطدمت بشيء فأزرق مكانه؛ فقط أنا لم أفعل. أريها لأمي بدهشة فتصمت للحظة ثم تجيبني: "من الزعل.. ساعات بيحصل كده". أفكر في أن "الزعل خبطني جامد قوي المرة دي". يبدأ النوم في التسلل إلى عينيّ المغلقتين أصلاً، فتتباعد الأصوات القادمة من الصالة شيئاً فشيء. ا

في مثل تلك الحالات لا أستغرق أبداً في النوم، بل يكون ما أمر به هو مزيجاً من الصحو والمنام، أو منام على خلفية الصحو؛ فأنا إلى حد ما أظل على شيء من وعيي بما يحدث حولي، ولكنني في الوقت ذاته أدخل قليلاً قليلاً إلى عالم النوم. لا يكون نوماً عميقاً ولا مريحاً ولا متواصلاً؛ فقط محاولة لمساعدة الجسد على الاستمرار. ولا تكون الأحلام -بالتالي- أحلاماً بالمعنى المفهوم، بل تتحول إلى هلاوس هي خليط من الواقع ومن العقل الباطن. أرى فيما يرى "نصف النائم" مكاناً مظلماً مهجوراً لا ينيره سوى عامود نور يبعث ضوءً خافتاً أصفر اللون.. يظهر محمد في الكادر مبتسماً، ثم تمتد يد سوداء بمسدس لتطلق عليه طلقة واحدة. يقع. ينطفئ النور. يطبق الظلام على المشهد. صوت خطوات تجري مبتعدة. أفتح عينيَ بغتة، وللحظة لا أميز أين أنا في الزمان أو المكان. أحملق للحظة في ظلام الغرفة منادية "محمد؟".. أظل في وضعي وأنا غير مدركة تماماً لأين أنا، حتى أبدأ في تمييز الأصوات القادمة من الصالة، والضوء المتسرب من تحت عقب الباب. يصعقني الإدراك. تخرج مني "يا محمد؟!" مشروخة باكية، مصحوبة بالدمعتين التين أغلقت عينيّ تفادياً لهما. أقرب هاتفي المحمول من وجهي لأنظر إلى الوقت، فأدرك أن نومي لم يتعد العشرين دقيقة. أغطي وجهي بيدي وأنا أفكر في أن ذلك لم يكن حلماً؛ إنه ما حدث بالفعل. ا
ا
أتقلب لأواجه الحائط في محاولة للرجوع للنوم، ولا ألبث بعد دقائق أن أنزلق إلى عالم "نصف النوم" مرة أخرى. يكون المشهد أهدأ تلك المرة.. صباح شتوي مشمس، وثلاثة أطفال في بلكونة الجدة. ثلاث ضحكات صغيرة أميز فيهم نفسي وعمرو ومحمد. الطفلة الصغيرة مفتونة بالنور المتسلل من بين شقوق الشيش، والطفلان الآخران مفتونان بتلك الكائنة الصغيرة.. استيقظ في تلك المرة بنعومة على أصوات ضحكات طفولية تتباعد. أنظر إلى المحمول فأرى أنني لم أتعد الخمس عشرة دقيقة تلك المرة، فأكون شاكرة لتلك الدقائق التي تفضل بها عليّ النوم. أقوم من السرير وأنا شبه متأكدة من أن لذلك الحلم الثاني أصل. أوقد نور الغرفة وأبدأ في ارتداء الإيشارب أمام المرآة، وبينما أفعل ذلك، أفكر في إنه كم من الغريب أن أفكر في ابن عمتي باسم "محمد"، فطالما ناداه الجميع، ومنهم أنا، "بحمادة". أفكر في أن الموت عندما يقتحم المشهد، يفرض هيبته و"سواده" على الجميع، فلا يصح أن نشير إلى الغائب سوى باسم جاد يليق بجلال الموت. في لحظة تحولت من حمادة لمحمد.. يا محمد. ا

أخرج إلى الصالة وأجلس مع الأقارب الموجودين قليلاً، ثم نستأذن أنا وأبي وأمي. أظل أفكر طوال الطريق في أن ذلك الحلم الثاني حتماً يذكرني بشيء ما. نصل إلى المنزل فأتجه رأساً نحو دولاب الصور. أجلس على الأرض وأبدأ في تصفح الألبوم الذي يحتوي على صوري وأنا طفلة. أجدها. ثلاثة أطفال يضحكون في ضوء شمس صباح شتوي بعيد. أتأمل في الصورة بعض الوقت. أربت بأصبعي على رأس الطفل الذي يظهر في يمين الصورة قبل أن أغلق الألبوم. أعيده إلى مكانه هامسة: "تصبح على خير.. يا حمادة". ا


Friday, February 27, 2009

في بيت العرايس

في بيت العرايس.. الحيطان بمبي، والفرش بمبي، والقلوب بمبي.. ا
ا
في بيت العرايس.. الشمس بتنشن على شباكهم، وتتسحب من بين شقوق الشيش تزغزغهم وتصحيهم بحنيَّة، ويستغربوا.. يستغربوا هما الاتنين لمّا حد يقولهم إن الدنيا كانت مغيمة على شباكه النهارده.. ا
ا
في بيت العرايس.. كل حاجة بتّضَحّك؛ الكيكة المحروقة، والهدوم اللي بتضيق حبة حبة، والبطانية المنشورة على الحبل ومش راضية تنشف.. ا
ا
في بيت العرايس.. القمر بيطلع يونسهم بالليل، يرمي عليهم شوية فضة وهو بيقولهم "تصبحوا على خير" قبل ما يقفلوا الشيش، بعدين يديهم ضهره المنوَّر عشان يداريهم عن عيون بقية الدنيا.. ا
ا
في بيت العرايس.. فيه فراشات خفية، وورد تحسه بقلبك، وفرحة معششة..ا

Thursday, February 19, 2009

عنها

أصلي المغرب ثم أشرع في إرتداء ملابسي، أفتح الدولاب وتبحث عيني عن اللون الأسود، فلا أجد. أبحث بجدية أكثر، لكن لا يسفر هذا البحث سوى عن جاكيت رمادي؛ يكون هو أقرب ما أجد للأسود. أخشى ألا يكون مناسباً فأتجه لدولاب أمي، أجد "بلوفر" أسود ولكنني أدرك أنه سيكون واسعاً جداً علي، فأرضى بالجاكيت الرمادي. أرتدي ملابسي في صمت ثم أقف أمام المرآة لأرتدي الإيشارب (الرمادي أيضاً). أحملق في وجهي الخالي من المساحيق بالمرآة، وأتذكر عندما كنا صغاراً -حتى فترة قريبة- كان عندما يتحتم علينا الذهاب مع أمي إلى عزاء، ترفض رفضاً باتاً إرتداءنا أنا وأختي للأسود. "إنتو لسه صغيرين على الأسود"، كانت تخبرنا، فنكتفي بالبني أو البيج أو أياً من غوامق الألوان. ابتسم لنفسي في المرآة محادثة إياها: "إنتي كبرتي يا نوران. ولازم يبقى عندك حاجة سودة في دولابك". أنهي ارتداء ملابسي ثم أتساءل إن كان ارتداء عقدي الفضة مناسباً أم لا: أوقظ أمي لأسألها: "هو كده
too much?!"
فترد بلا. أذهب إلى غرفتي ثم أعود لأسألها: "طب هو فيها حاجة لو حطيت بارفانة؟"، فتخبرني أنني "مش من أهل المتوفي -لا سمح الله- فمفيهاش حاجة يعني". ترعبني فكرة جرح أهل المتوفي بأي شكل من الأشكال، فأحرص كل الحرص أن تتأكد أمي من شكلي العام قبل أن أهم بالخروج. ا
ا
أخطو إلى الشارع أمام العمارة، ولسبب ما أنظر إلى السماء، فأفاجأ بسرب من العصافير البيضاء طائراً من يساري إلى يميني، وكأنه ظهر في نفس اللحظة التي لامست فيها قدمي أرض الشارع. أحملق للحظة في السماء، ثم للحظة في الأسفلت، ثم السماء مرة أخرى حتى أتأكد أنها ليست هلاوس، ولكن العصافير هناك. تطير بدون صوت، ولكنها بالتأكيد موجودة. أبتسم في تعجب قائلة لنفسي "عصافير إيه دي اللي بتطير بالليل؟!" أصل إلى مكان العزاء، وتبحث عيني تلقائياً عن دكتور سهير ومنى، أجدهما، فأتجه إلى دكتور سهير وأحتضنها طويلاً. أسلم على الموجودين ثم أجلس في المكان الخالي إلى جوار منى. أثبت عيني على الوجه الملائكي الذي يبكي تارة ويتمتم تارة، وأتمنى لو كان المكان بجوارها خالياً حتى أجلس بجانبها و"أطبطب" عليها. تلتقط أذناي من السماعات "وإن ربك لذو فضل على الناس ولكن أكثرهم لا يشكرون" فتتسارع الدموع إلى عيني دون سبب وأهمهم "بالحمد لله". ا
ا
أتشاغل بالنظر إلى الأطفال الموجودين مع أمهاتهم، فأجد أنهن ثلاث بنات، يرتدين بالصدفة جميعاً اللون الوردي، فأفكر في أنهن يبدون مثل الفراشات -تماماً مثل الفراشات. أتذكر أن فرح سلمى لم يمض عليه أسبوع، وأن ترقية دكتور سهير -التي تأخرت أعواماً- لم تكمل ثلاثة أيام، فأتعجب في صمت. ا
ا
تهم منى بالقيام فأدعوها لأن نستمع لربع آخر نقوم بعده. يبدأ المقرئ بسورة "مريم"، فأنظر لمنى ونبتسم سوياً، فقد كنا نتحدث عن تلك السورة بالأمس فقط. كنت أسري عن نفسي خلال محاضرة الأمس البشعة بكتابة الآيات الخاصة بقصة "ستنا مريم" -كما أحب أن أسميها- في دفتري. أتلو الآيات في سري مصاحبة لصوت المقرئ. أفكر في هذه الفتاة الصغيرة -تقول الروايات بأن عمرها لم يتعد الثلاث عشرة سنة عند حملها بالمسيح- في خوفها عندما يظهر لها سيدنا جبريل، فتحتمي بربها: "إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقياً". أفكر في قلقها ورعبها مما سيظنه قومها. أفكر في أنها كانت وحدها؛ طفلة وحيدة تتحمل كل ذلك. هل وسط كل الآلام النفسية والجسدية التي كانت تكابدها أثناء الولادة، كانت تعلم أنها تلد الحب والرحمة والآية؟ يوجعني قلبي دائماً عندما تأتي آية "فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسياً منسياً"، فأتمنى لو كنت معها لأمسك بيدها الصغيرة وأطمئنها بأن كل شيء سيكون على ما يرام. ا
ا
ينتهي الربع فننهض أنا ومنى. أحتضن دكتور سهير مرتين موصية إياها: ا
"Please be fine ya Doctor"
فترد بابتسامة منهكة: "ربنا يخليكوا ليا". أخرج أنا ومنى من القاعة فتلفحنا نسمة باردة، أحتمي منها بانكماشي على كتف منى. أخبرها عن "العصافير المجنونة اللي مش بتظهر غير للمجانين اللي زيّنا" فنضحك سوياً. نتمشى قليلاً قبل أن نفترق كل إلى وجهتها. أركب التاكسي وأنظر عبر الزجاج المغبش إلى المصابيح المضيئة في وسط ظلام الشارع، تبدو وحيدة و"بردانة"، ويبدو ضوئها خافتاً، ولكنها تلقيه بالرغم من كل شيء. ا

Sunday, February 15, 2009

كلما أوشكت فراشة القلب أن تحلِّق.. سرقك مني اتصال مقطوع أو قطار مغادر. ا

Wednesday, February 11, 2009

ا "كانا في حاجة لمن يصدق ألمهما الخارق لكي يواصلا ما تبقي لهما من حياة، وكان هو من صدق ذلك وإن متأخرا، لم يخرجهما من الجمدة بنوبات التشنج التي تحدثها الصدمات الكهربائية، ولم يستعمل معهما مضادات الذهان الساحقة، فقط صدق ألمهما" ا
محمد المخزنجي - ذلك الوميض
ا

Friday, February 06, 2009

أبيض



أشوف البدر ليلة تمامه على وِش منى وهاجر.. بوسة على خَد كل واحدة فيهم.. أسأل البدر في سري "أنت أبيض ولا فضي؟!"، لكن البدر هناك.. فوق.. فوق في عُلاه، بيبتسم لي ابتسامة هادية كده ومايرُدش عليا.. ا

أفتكر كل الحاجات البيضا اللي بحبها: طرحة أمي بتاعة الصَلا، الشعرات البيضا اللي طالّة من وسط سواد شعرَك، النور الطالع من إيدينا وهي مشبِّكة في بعض، ضحكتي وأنا معاك، شعر جدي اللي كان عامل زي التلج؛ تلج حنيِّن، مش ساقع وجامد زي تلج البلاد البعيدة.. البعيدة اللي واخداك مني.. ا

أكمل تمشية في نور البدر اللي معرفش إن كان أبيض ولا فضي، وأفتكر الحاجات البيضا اللي مبحبهاش: الصفحات الفاضية الفاضية، الكلام المركون في القلب وماينفعش إنه يتقال، حيطان المستشفيات، الطيارات المسافرة، تلج البلاد البعيدة البعيدة اللي واخداك مني.. ا

الأبيض هو الحياة.. الأبيض هو الموت.. الأبيض أول كل الألوان وآخرها.. الأبيض عدو، الأبيض حبيب.. الأبيض حلمي وكابوسي. ا

الأبيض لُغز.. واللي يحلُّه يستاهل كل ما يجرى عليه.. ا

Tuesday, February 03, 2009

بين الخيط الأسود والخيط الأبيض

دخلت لتستحم بماء دافئ ونثرت روح الياسمين على شعرها وجسدها، ثم تركت الماء يسيل ويغمرها. خرجت من الحمام وارتدت منامتها القطنية البيضاء. مشطت شعرها الأسود الطويل، ثم أغراها هدوء ما قبل الفجر فوقفت في شرفة غرفتها، وعندها تذكرت. ا
ضمت يديها الإثنتين على فمها وبدأت في الهمس. ضحكت ضحكتين في وسط "الوشوشة" المنسابة، ثم عندما فرغت رفعت يديها المضمومتين على شكل دائرة صغيرة إلى عينيها، ثم إلى فمها مرة أخرى حيث زرعت فيهما قبلة، ثم فتحت يديها إلى السماء وكأنها تطلق حماماً غير مرئياً إلى حريته: "يا رب قُل له.." ا

Tuesday, January 27, 2009

بجد.. مش هزار-

ا ..سوف تخرج من الكتاب لتتجسد أمامي؛ تحضر لي كوباً من الماء وتربت على ظهري، تخرج لي من جيبك منديلاً ورقياً تجفف به دموعي، وأنظر لك فتشير للأمام مبتسماً ويدك الأخرى ماتزال على كتفي قائلاً: "بُصي العصفورة!" -بجد مش هزار. ا
***
تمشي معي قليلاً، أحكي لك -بأسى عميق- عن كوابيس الليلة الماضية؛ تلوح للأشرار بيدك فيجرون مبتعدين عن أحلامي، تقبلني في باطن كفي وتخبرني أن كل شيء -حقاً كل شيء- سيكون على ما يرام -بجد مش هزار. ا
***
أمشي في الميدان بين الوجوه الغائمة، يوقفني سيل السيارات المسرعة لدقائق في مكاني، فأغمض عينيّ للحظات وأمد ذراعيّ في وضع التحليق موجهة ابتسامتي صوب قرص الشمس.. وأظل أحبك -بجد مش هزار. ا

Tuesday, January 13, 2009

الآن فقط أرى كل شيء بوضوح. كانت سعادة الأيام القليلة الماضية تحضيراً لي لما ينتظرني، والثمن: مدفوع مؤخراً. ا
ا
سيكون التكفير عن السعادة صعباً هذه المرة. يا ميت خسارة. ا

Friday, January 09, 2009

يوميات الكوفية

توطئة: ا
ا ..ويقولون يا سيدي بإن الحياكة مثلها مثل الطهو: فعل حب. فحينما تريد أن تحيك شيئاً لأحد، لابد وأن تتذكره في كل غرزة، بحيث يختبىء حبك له بين الخيوط فيمنحه دفئاً مضاعفاً. ا
***
اليوم الأول: ا
لونك المفضل هو الأزرق.. لذا آتي بشَلَتي صوف أحمر لأبدأ الحياكة. ا
أضع الإبرتين والصوف أمامي وأنظر لهم قليلاً.. أعتدل في وقفتي قائلة بصوت عالٍ: "على فكرة بقى.. الكوفية دي مش ليك!" .. أحرص على أن يكون صوتي حازماً وواضحاً حتى يتمكن من عبور ال3672 كيلومتراً التي تفصلنا (أيوة حسبتهم!). ا
ا
اليوم الثاني: ا
أبدأ في الحياكة. الإبرتان جديدتان لم تتعود عليهما يداي بعد. أنحيك عن ذهني تماماً. أبدأ في لف الخيط حول الإبرة لأبدأ أول غرزة، الثانية، الثالثة. أزهو بنفسي لأنني وصلت للغرزة الثالثة بدون التفكير فيك تماماً. أتوقف فجأة عاقدة حاجبيّ لأتسائل: "هل إذا فكرت في أنني لا أفكر فيك، يعتبر ذلك تفكيراً فيك؟!" لا أتوصل لشيء سوى "أُف" مغتاظة واستكمل الصف بعصبية.. خمسون غرزة كما نصحتني صديقتي حتى لا تكون عريضة جداً أو "كِنزة" جداً.. أبدأ في الصف الثاني ولم تزل الإبرتان غير طوع يدي.. أفكر في أن السبب لابد وأن يكون البرد.. أخرج من غرفتي لأحضر المدفأة الكهربائية. أضعها في المقبس ولكنها لا تعمل.. أخرج السلك، أدخله، أحركه، أضغط على الأزرار بدون فائدة.. أقف قبالتها صامتة تنتابني رغبة عميقة في "تدشيشها مليون حتة"، ولكني أقاوم تلك النزعة التدميرية وأكتفي بإلقائها خارج الغرفة حتى لا تستمر في إغاظتي ببرودها المعدني. أعود للصوف والإبر مستكملة بعض الصفوف ولكن بدون "مزاج".. أضجر وأضعهم جانباً.ا
ا
اليوم الثالث: ا
أكتشف أن الصفوف التي قمت بحياكتها بالأمس بشعة تماماً. أؤنب نفسي لإنتهاكي القاعدة المقدسة "مافيش مزاج.. يبقى مافيش تريكو". أحل كل ما قمت به بالأمس لأبدأ من جديد. غرزة، إثنين، ثلاث، ورغماً عني أبدأ في التساؤل عمن ستكون تلك الكوفية من نصيبه، فأدرك أنني لا أحيكها لأحد على وجه التحديد. تبدأ الإبرتان في معاندتي من جديد، وكأنه قد نبتت لهما إرادة خاصة؛ فتصبح "المقلوبة" "معدولة" و"المعدولة" "مقلوبة"، وفي المقابل أعاندهما واستمر في الحياكة. تشتد الحرب بيني وبينهما وتكون الضحية الوحيدة هي قطعة التريكو المسكينة التي تأبى عليها الأقدار أن تتحول لكوفية. تُرفع أول راية بيضاء من طرفي عندما أدرك عبثية الموقف. أضع كل شيء جانباً وأنا على يقين من أنني غداً سأحل كل ما قمت به اليوم. ا
ا
اليوم الرابع: ا
كما توقعت، أبدأ بحل ما قمت به بالأمس. تبدو الخيوط المستعملة شبه مهترئة نتيجة لمرتين من الحياكة والحل. أبدأ بهدوء مرة أخرى، وللحظة تخطر لي فكرة أنه لابد وأن الإبر تفكر فيك! "أيوة! أيوة! هي لازم الإبر بتفكر فيك!" فلأنني -بالطبع- قد نحيتك عن ذهني تماماً منذ البداية، لابد وأن ذلك التناقض في تيارات التفكير هو المتسبب في ذلك التنافر بيني وبين الإبر. أظل على موقفي واستمر في الحياكة، يبدو وكأن شلتي الصوف قد انضمتا للمؤامرة؛ فتتعقد مني الخيوط وتتشابك بحيث يستحيل حلها تلك المرة. أجز على أسناني وأقذف بهم على الأرض، أخرج من الغرفة وأنا حانقة على التريكو والإبر والصوف وعليك. أتفرج على التليفزيون قليلاً حتى ينتصف الليل وينام كل من بالمنزل. أنسحب إلى تحت بطانيتي الثقيلة، ويتحول حنقي تدريجياً إلى دموع مختنقة، فكم هو عبثي ألا أتمكن من حياكة كوفية بدون وجودك في الخلفية، أحدث نفسي: "دي كوفية.. هي حتة كوفية!". يتسلل النوم قليلاً قليلاً إليّ، فأغفو.. ا
ا
اليوم الخامس: ا
يفتر فمي عن ابتسامة صغيرة قبل حتى أن أفتح عينيّ؛ في واقع الأمر أنا لا أريد أن أفتح عينيّ، فقد حلمت بك. جئتني مبتسماً كالعادة، أخبرتني أن لونك المفضل مايزال هو الأزرق، وأن المسافات -حقاً- لا تعني أي شيء. كان حلماً قصيراً، ولكنه كان كافياً. أقفز بخفة من فوق سريري لأفتح دولابي وأخرج شلتي صوف أزرق.. أقربهما من فمي لأهمس لهما باسمك، ثم أنحني لألتقط الإبرتين من على الأرض، استخلص منهما عقدة الخيوط الحمراء وأضعها جانباً. أبدأ في لف الخيط الأزرق حول الإبرة، وأبدأ في الحياكة. تنساب الصفوف الزرقاء بين يديّ بنعومة وأنا أعد: واحد.. إتنين.. تلاتة.. أربعة.. خمسة... ا

Friday, January 02, 2009

واحد يناير 2009

ا.. ولأنني أؤمن إيماناً عميقاً لا يداخله شك بالعلامات، والدال والمدلول عليه؛ كان لابد من ذكر ما جرى: ا
ا
أهرع صباحاً من باب الكلية إلى الداخل، فأنا متأخرة حوالي نصف الساعة عن موعد الندوة.. المصعد موجود بالصدفة ولكنّي كالعادة أفضل السلم.. أصعد سريعاً سريعاً لأفاجأ بأجمل طفل في الوجود يبتسم لي.. أقترب قليلاً فأرى أنها "بنّوتة" بشعر ذهبي قصير، لا تزيد عن العامين؛ تبدو خارج سياق المكان الخالي حتى من الطلبة في ذلك الوقت من العام.. أُقبلها و ألعب في خدودها فتبتسم لي ابتسامة مضيئة وتجري مختفية إلى داخل أحد المكاتب.. أفكر فيما أخبرتني به أمي قبلاً: "البنت في الحلم دنيا حلوة".. ابتسم وأنا استكمل صعودي متمتمةً لنفسي: "مافيش دنيا أحلى من كده.." ا
ا
تنتهي الندوة ظهراً فأقول لفراشتيَّ الأثيرتين: "ياللا نعمل حاجة"، فتتقافز أحداهما مشجعة للفكرة. نحلق ثلاثتنا حتى نحط على طاولة جانبية في ذلك المطعم، وتشع من حولنا هالة من الضحك الصافي والبهجة الخالصة. نقرر المشي قليلاً في شوارع مصر الجديدة، وتلفت نظري لأول مرة حقيقة كثرة محلات الورد في ذلك الشارع: "واحد.. إتنين.. تلات محلات ورد في عشر دقايق!" وفي وسط تلك الأفكار "الوردية" يهاتفني مازن ليدعوني إلى كتب كتابه بعد أيام، فأدعو له من قلبي، وألتفت لهما لأخبرهما بأنه "أكيد فال خير".. ا
ا
تخبرنا منى عن المكان السحري الذي وجدته في الزمالك وحتمية ذهابنا هناك معاً، فتضيف هاجر بأننا لابد وأن نعقد اجتماعاً لجنياتنا الصغيرات، فأرد عليهما بحكيي عن الحصان المجنح من سحاب والذي رأيته يركض وراء قرص الشمس في السماء بالأمس. يبدو كلامنا خارجاً عن نطاق الزمان والمكان والمعقول بصفة عامة، فأقول لهما: "أنا حاسة إني باحلم".. تكتمل الصورة بثلاث زجاجات من بالونات الصابون: نمشي في صف واحد، ونعد حتى ثلاثة فينطلق سيل من "البلالين" الشفافة/الملونة في فضاء روكسي ممتزجاً بضحكاتنا وبأن "الناس هيقولوا علينا مجانين!" ا
لا يبخل اليوم علينا بالمزيد من المفاجآت، "فنتكعبل" في حوض ريحان يبدو وكأنه قد نبت لنا خصيصاً، لا نكاد نصدق أنفسنا وتقطف منى لكل منا عوداً. نقرر أن اللحظة قد أثبتت جدارتها بأن تُخلد، فنلتقط بعض الصور في بقعة الريحان السحرية. ا
ا
يحين الوقت، فنعبر نهر الطريق ونتفرق على وعد باللقاء.. أشعر أنني خفيفة.. خفيفة، أعود إلى المنزل على جناح فراشة أكاد أقسم أنها كانت وردية، محتضنة في يدي عود ريحان وزجاجة بالونات صابون. أدخل مفتاحي في باب الشقة - وبدون أدنى سبب- أتذكر علي الحجار ورنة صوته وهو يقول "الحلم متفسر.. وبكرة جاي أخضر".. ا